إيطاليا - جِنوه 2001 توترت يد شرطي مكافحة الشغب (لويجي) على عصاه وهو يتطلع لجموع غفيرة من المتظاهرين الشباب أمام مقر القمة السنوية لمجموعة الدول الثماني الكبرى. هتافات تتهم الثمانية الكبار بالمسئولية عن الإيدز والاحتباس الحراري والفقر بالذات في أفريقيا السوداء، لافتات تحمل عبارة "اجعلوا الفقر تاريخًا منقضيًا"، و"انقذوا كوكبنا البائس"، و"العولمة غول يفترس ثقافات الشعوب وحرياتها ويدوس على المهمشين"، تلفت نظره العبارة، يحاول أن يحللها ويفكر فيها، ولكن تقاطعه إشارة من قائده أن يسارع بقيادة فرقة تلتحم بالمتظاهرين وتقبض على بعضهم على سبيل "التهويش".. يسرع (لويجي) بتنفيذ الأمر دون أن يفكر لحظة واحدة أنه واحد من هؤلاء المهمشين الذين انطلقت التظاهرة لأجلهم! مجرد "شَغِّيل" آخر يحركه أصحاب "الأجندات السعيدة للعالم" لإسكات صيحات المعترضين الذين اندلعت المواجهات بينهم وبين الشرطة، مما أسفر عن مقتل شاب عمره 23 عامًا كان كل حلمه أن يجد لنفسه مكانًا كريمًا تحت الشمس. إيطاليا – جنوه 17 من يوليو 2001.. تذكر جيدًا هذا التاريخ، فمن بعده قررت قيادات الدول الثماني الكبرى ألا تعقد قممها في المدن الرئيسية؛ خوفًا من ثورة الغاضبين، وقامت إيطاليا بتعليق عضويتها في اتفاقية "شنجن" التي تنص على انتقال من يحمل تأشيرة دخول دولة أوروبية إلى الدولة الأخرى ببساطة؛ خوفًا من سهولة انتقال المتظاهرين منها وإليها عبر الحدود. السادة الكبار أدركوا أن هناك "اعتراضات" و"ثورة" و"جمهور غاضب".. فاختصروا حل المشكلة في نقل اجتماعاتهم الأنيقة بعيدًا عن كل "هؤلاء"، الأمر الذي يعكس مستوى الذكاء الذي بَلَغه البشر! "أحاول أن أشرح حقيقة العولمة وبعض مخاطرها، بما تتضمنه من تهديد لسعادة الإنسان ورفاهيته وشعوره بالاستقرار والطمأنينة، وتهديد لشعوره بالرضا عن نفسه المستمد من احترام هويته وتفرده. هذه المخاطر التي تأتي مما يسمى بثورة المعلومات، ومن اكتساح قيم المجتمع الاستهلاكي، ومن انتشار ما يمكن تسميته بحضارة السوق، إن تحويل كل شيء إلى سلعة كلها من مظاهر العولمة! "د.جلال أمين – كتاب "العولمة" القاهرة 2010: تطلع (كريم) في ضيق عبر النافذة المغلقة للتاكسي المكيّف إلى السيارات المتكدسة -بالمعنى الحرفي للكلمة- في الميدان، نظر لساعته مدركًا تأخره عن موعده مع رفاقه "جمال" و"بلال" و"يوسف" -الذين تحولت أسماؤهم بقدرة قادر إلى "جيمي" و"بيلي" و"جو"- أخرج الI-phone –الذي لا يستخدم ثلاثة أرباع إمكانياته- أرسل ل(جيمي) رسالة نَصُّها: 7at2akhar 7abba keda..traffic is like hell!، ثم وضع سماعتي الهاتف في أذنيه مستسلمًا لصخب موسيقى الmetal heavy وهو يلقي نظرة لا مبالية على لوحتين إعلانيتين شديدتي الضخامة لCoca-cola وMc-Donald's تمتطيان -بشكل أقرب للكوميديا السوداء- مبنيين كبيرين في الميدان القاهري المعروف -يا للسخرية- باسم "التحرير"! من أين نبدأ الحديث؟ "العولمة"، دعونا لا نتسرع ونحكم عليها بأنها شر مطلق أو خير صافٍ، فالحياة أعقد من تلوين الأشياء بالأبيض الناصع أو الأسود "الغطيس"! فمشكلة الحديث عن العولمة أنه -غالبًا- إما إنذار ووعيد وترهيب باعتبارها "المسيخ الدجال" الجديد القادم ليملأ الأرض فسادًا وجورًا، أو تبشير ودعاية وردية باعتبارها الطريق لكي تصبح الأرض مكانًا أفضل؛ حيث الذئب والحَمَل يرعيان معًا، والحية طعامها التراب. والمنطق يقول إن كل ظاهرة لها سلبياتها وإيجابياتها، كل ظاهرة مهما كانت، حتى لو بدت شرًا خالصًا أو خيرًا نقيًا، بها من المميزات والعيوب، وإنما يتحدد موقعها من نفع البشرية أو الإضرار بها من أمرين: غلبة مميزاتها على عيوبها أو العكس، وطريقة تطبيقها من القائمين عليها. ولأن للعولمة أكثر من جانب يختص به أكثر من مجال، فإني سأتناولها من المجال الذي أستطيع تناولها منه، أعني التاريخ. ولن أتناول "العولمة" بالمعنى الأكاديمي بل في المقام الأول بالمعنى الإنساني، منذ بدايات ظهور فكرة "ضم العالم في بوتقة واحدة" في العقول البشرية.. ولكن لنستعرض ذلك علينا أن نسأل أنفسنا: كيف كان شكل العالم قبل ظهور الفكرة سالفة الذكر؟ أو بشكل أكثر دقة: كيف كانت نظرة أسلافنا ل"الآخر" قبل ظهور فكرة الاندماج معه؟ ذلك "الآخر" نحن الآن على بُعد آلاف السنين من 2010، في معبد فرعوني على ضفاف النيل، يجلس الكهنة الشباب بين يدي كبير كهنة آمون الذي يقول لهم: "نحن -المصريون- أبناء الآلهة، وباقي الأمم من أبناء أعدائهم.. نحن الذين طهرتهم الشمس، والآخرون نَجَس، وإن كان علينا التعامل معهم، فبحذر وحيطة، فنفوسهم المجبولة على الشر تطمع فيما بين أيدينا". تجيبه بعد زمن دعوة إخناتونية إلى توحيد الشعوب تحت الأيدي الكريمة لآتون، إله الجميع بالمساواة، ولكنها تُخنَق وتُدفَن تحت أنقاض مدينة "أخيتاتون" -مدينة إخناتون المقدسة- بأيدي الكهنة ورجال الجيش وكل من رفض فكرة أن يتساوى المصريون أبناء النيل والشمس الأطهار مع جيرانهم الذين لم تطهرهم الشمس ولم يخلقوا من طمي "حابي". يقطع خط التاريخ سيف آشوري ملوث بدماء "الأمم التي لم تتعلم حب الإله آشور العطوف"، حيث خرجت من المملكة الآشورية الجحافل لتنفذ وصية الإله بمهاجمة "الآخرين" وإعمال السيف فيهم وأخذ أصنام آلهتهم لتوضع بين يدي الإله آشور، وقد كُتِبَ عليها أنها صارت أسيرة لديه بأيدي أبنائه الذين كُتِبَ عليهم الخروج كل شهر "تموز/ يوليو" من كل عام لتأديب "الأمم" وتعليمها فضل الآشوريين على من سواهم! ننتقل عبر الزمن والمكان إلى اليونان حيث كان رجل وقور يقول: "أشكر الإله الذي خلقني يونانيًا لا بربريًا، حرًا لا عبدًا، رجلاً لا امرأة". هذا الرجل الذي صنّف الجنس الراقي إلى "يوناني" ومن سوى اليونانيين إلى "بربري" اسمه "أفلاطون"! (وأنا لا أقصد الانتقاص من شأن هذا الرجل العظيم، ولكني أعرض لشكل تصنيف الآخر آنذاك، فهو في النهاية ابن بيئته، وكذلك الكهنة المصريون). أما في أرض فلسطين، وعلى مسافة قرون وكيلومترات من "طيبة" و"أثينا" و"آشور" جلس كهل ملتحٍ في ظل خيمة ب"حبرون/ مدينة الخليل" بأرض فلسطين، يملي تلاميذه: "نحن أبناء الرب وأحباؤه، نحن من سينام في حضن إبراهيم عندما يأتي ملكوت السماء، وندين الأمم أمام الله، نحن من اختارنا الله لنكون شعبًا مختارًا" سرح، وقد تذكر عهدًا قريبًا كان فيه معه أهله سبيًا في أرض بابل حتى خلصهم الفُرس وأعادوهم لفلسطين، ثم أردف "نحن الناس ومن سوانا أمم يسلطنا الرب عليهم بالسيف والنار، ذبحًا نذبحهم ونسوي بيوتهم بالتراب لنقيم ملكوت السماء الذي وُعِدنا به". يسأله تلميذ: "أليسوا بشرًا مثلنا يا سيدي؟" فيبتسم الرجل بإشفاق من جهل تلميذه وحداثة خبرته: "وقد يكونون بشرًا.. ولكنهم ليسوا مثلنا".. نقطة اعتراضية هكذا كانت كل أمة تنظر لمن سواها، وإن لم يمنعها هذا من إقامة روابط التبادل التجاري والثقافي والاجتماعي معها، فإن كان في الإنسان تشدد في مساواة الآخر بنفسه، فهذا التشدد قد تلينه المصالح أو لمحات عابرة من التفتح العقلي.. ولأن تطور مجالات الحياة يفرض تطورًا وتوسعًا في نطاق المصالح المتبادلة، فقد كان لا بد أن يأتي يوم تبتلع فيه مرونة طلب المنفعة ذلك التعصب للذات، ومع الوقت، كان لا بد من ظهور تصنيفات جديدة للآخر -في ضوء مزيج من المصالح والتفتح العقلي- تتدرج من أن "التعامل مع الآخر شر لا بد منه"، ثم "الآخر ليس بهذا السوء"، وبعدها "الآخر يمكن أن يكون صديقا لنا"، انتهاءً ب"فلنندمج مع الآخر ونحول العالم لقرية كبيرة!". بمثل هذه المبادئ بدأ المشرعون اليونانيون يفكّرون في قوانين لحماية حقوق الأجانب والعبيد، وتقبل المصريون وجود جاليات إغريقية كبيرة في بلادهم -قبل مجيء الإسكندر- وتحالفت المملكة اليهودية أحيانًا مع العرب والمصريين.. العولمة تُطلِق صرخة ميلادها على مسافة زمنية ومكانية من كل هذا.. وقف المهندس اليوناني "دينوقراطيس" في قرية مصرية للصيادين -على ساحل البحر المتوسط- اسمها "راقودة"، يتلقى التعليمات من قائد يوناني مغامر قرر أن تكون في تلك البقعة مدينة تحمل اسمه، ينطلق منها حلمه في جمع البشر تحت راية حضارة إنسانية واحدة تمزج بين ثقافات الشرق والغرب والشمال والجنوب، ويتحول فيها الإنسان إلى مواطن عالميّ في دولة عالمية واحدة، عاصمتها تلك المدينة.. الإسكندرية! (يتبع) مصادر المعلومات: 1- العولمة: د.جلال أمين. 2- عولمة القهر: د.جلال أمين. 3- ماذا حدث للمصريين: د.جلال أمين. 4- وصف مصر في نهاية القرن العشرين: د.جلال أمين. 5- أسياد الجريمة: جان زيجلر. 6- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 7- قصة الفلسفة اليونانية: د.زكي نجيب محمود. 8- اللاهوت العربي: د.يوسف زيدان. 9- العالم الهيللينستي: فرانك ولبانك. 10- الشرق الأدنى في العصرين الهللينيستي والروماني: د.أبو اليسر فرح. 11- تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: د.عمر صابر عبد الجليل. 12- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 13- الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: د.إسرائيل شاحاك. 14- فلاسفة أيقظوا العالم: د.مصطفى النشار. 15- أساطير الصهيونية: جون روز. 16- أساطير اليهود: لويس جنزبرج.