حمل رفاعة الطهطاوى مشعل التنوير بعد عودته من فرنسا، وأكمل المسيرة جمال الدين الأفغانى وتلميذه الامام محمد عبده، كل ذلك كان إرهاصا بالنهضة والتحرر التى حمل مشعلها أيضا قاسم أمين وعلى عبدالرازق. ثم جاء طه حسين بثورته الفكرية وقلب التربة المصرية رأسا على عقب. وانفجر شلال الإبداع مع توفيق الحكيم ويحيى حقى ولكنه كان شلالا فقط، لم يحفر لنفسه نهر ومجرى، يروى الأرض على شاطئيه. واحد فقط ظل يحفر لنفسه مجرى بصبر ودأب موقنا بحكمة المصرى القديم الذى قرأ ورأى وعرف، إنه نجيب محفوظ (1911 2006) الذى أدرك منذ البداية أنه النهر، نهر الابداع والحكمة، فراح يرسل ابداعه زخات مطر، كلما سقطت على أرض أينعت. وأراد أن تكون بداية المطر فوق مصر الفرعونية، فكانت رواياته الأولى «عبث الأقدار» و«كفاح طيبة» و«رادوبيس» التى رصدت حركة المصريين فى التاريخ فى محاولة جادة لكتابة تاريخ مصر. لكن المبدع داخل نجيب محفوظ تمرد على الهوس بالتاريخ وراح يشده للحاضر، للواقع الاجتماعى لوطن يحاول أن يصنع لنفسه مكانا تحت الشمس، لكن كيف ذلك؟ كان ذلك هو السؤال؟ كانت الأسطورة التى تحكم حياة نجيب محفوظ، إذا كان لكل إنسان أسطورته الخاصة التى تحكم مجرى حياته دون أن يشعر. كانت هى الرؤيا والمشاهدة ترسخت داخله منذ كان طفلا يرقب من شرفة منزله المظاهرات ضد الاحتلال فى ميدان القاضى. مع الأيام والسنين أصبحت رؤية طائر محلق بالحكمة والنضج، يرى كل شيء ويعاينه بدقة، ثم يحلق بعيدا فى الخيال، ويكتب متحررا من كل شىء. كانت الاجابة عن سؤال كيف لهذا الشعب أن ينهض؟ تحتاج أولا إلى أن نفهم هذا الشعب، وكانت الحارة بناسها وعاداتها وتقاليدها وفتواتها، هى العالم وبوابة المعرفة. وما الدنيا عند محفوظ إلا حارة صغيرة يحكمها فتوة بالعدل مرة، والظلم مرات، فكانت روايات «زقاق المدق».. و«خان الخليلى» و«بداية ونهاية» ثم الثلاثية.. إنها المرحلة الواقعية لأديب درس الفلسفة ووضع قدمه على أرض الواقع ثم حلق بالخيال ليفهم ويحكى الحكاية لنا، حتى نفهم من نكون. وجاءت ثورة يوليو 1952 وكانت صدمة قاسية لنجيب محفوظ الوفدى العتيد الذى لم يحب أحدا مثلما أحب زعيمى الوفد سعد زغلول ومصطفى النحاس صدمة أصابته بالارتباك والخوف، فهرب منه شيطان الابداع لمدة سبع سنوات عجاب (من عام 1952 حتى 1959). ولابد أن هذه السنوات كانت كلها أسئلة فلسفية وجودية عن من؟ وماذا؟ ولماذا؟ وكيف يحدث ذلك؟ وكانت الاجابة درة أعماله الفلسفية «أولاد حارتنا» حيث جعل من الحارة المصرية عالما موازيا للكون كله والخلق والوجود والعدم. فالرواية كما قال لرجاء النقاش فى مذكراته: كانت حلما كبيرا بالعدالة وبحثا دائما عنها، ومحاولة للإجابة عن سؤال جوهرى: هل القوة هى السلاح لتحقيق العدالة أم الحب أم العلم؟ كان ما دفعه لكتابة هذه الرواية: الأخبار المتناثرة التى ظهرت فى تلك الفترة 1958 عن الطبقة الجديدة التى حصلت على امتيازات كبيرة بعد الثورة، وتضخمت قوتها حتى بدأ المجتمع الاقطاعى الذى كان سائدا قبل الثورة يعود مرة أخرى، مما جعل فكرة العدل تلح بشكل مكثف. ثم توالت رواياته الفلسفية الواقعية «اللص والكلاب» و«السمان والخريف»، «الطريق»، «الشحاذ»، «ثرثرة فوق النيل»، ميرامار». وعندما جاءت فترة السبعينيات بانفتاح السداح مداح الذى أطلقه السادات. كان محفوظ يرقب كل شىء ويسجله بعقله ووجدانه، وراح يرصد التغيرات التى حدثت لمنظومة القيم مع سيطرة منطق الشطارة والفهلوة على حساب قيمة العمل والاتقان. سجل ذلك فى روايات «أهل القمة» «الحب فوق هضبة الهرم» «الباقى من الزمن ساعة». كانت الانتقادات صريحة لفترة حكم السادات لكنه لا يضم «الحرافيش» إلى هذه الروايات رغم أنها كتبت فى نفس المرحلة، وتفسير نجيب محفوظ لذلك: أن «الحرافيش» كتبت بعد نصر أكتوبر فكانت مليئة بالبهجة والاشراقات الروحية، والفنية بسبب نصر أكتوبر، حيث كانت الأجواء توحى بالتفاؤل والأمل. وظل صاحب نوبل يحفر لنفسه مجراه الابداعى لا يوقفه شىء، ولا يحول بينه وبين الكتابة عائق مهما كان.. أخلص للكتابة وفقط، ورغم انتاجه الضخم لم يلتفت إليه إلا النقاد والمبدعون.. حتى كان يوم الخميس 13 أكتوبر 1988 أعلنت جائزة نوبل عن فوز نجيب محفوظ بالجائزة وساعتها انتبهنا جميعا إلى هذا الفيض الإبداعى الذى يكاد يغرق الضفتين بالفن. وانهال التكريم على مبدعنا الكبير فقلده رئيس الجمهورية قلادة النيل العظمى. وبعد سنوات من الاحتفاء والتكريم قام أحد خفافيش الظلام بمحاولة لقتله واغتياله فى يوم جمعة من عام 1994 بعد أن طعنه فى رقبته طعنة كادت تودى بحياته. ولكن نجيب الفيض والنهر. امتص الطعنة ونجا.. وظل يكتب ويفيض بالفكر والابداع حتى أسلم الروح لخالقه فى 30 أغسطس 2006. ونحن فى هذا العدد الخاص لانحتفى به ولكن نتعلم أن نعمل بصبر ودأب وإخلاص لنحفر ولو مجرى بسيطا فى أحد روافد نهر نجيب محفوظ الابداعى.. له الرحمة ولروحه البهية عظيم المحبة والسلام..