فى روايته الشهيرة ميتتان لرجل واحد، يحكى الروائى البرازيلى الفذ جورج أمادو عن جسد مسجى داخل تابوت، جسد واحد فقط، يكمن خلفه ميتتان للرجل ذاته، حيث ثمة تصوران للسؤال المركزى فى الرواية عن طريقة موت البطل الإشكالى جواكيم، هذه الطريقة التى تبدو ملائكية وادعة مثل شخصيته النمطية السابقة حين كان جواكيم بحق، والأخرى تقدم تصورا مغايرا أقرب لحياة الصعلكة والتشرد التى عاشها فى السنوات الأخيرة منذ غادر حياته الرتيبة الهادئة، ليتحول إلى كينكاس هدير الماء، قائد حياة الليل فى بلدته البرازيلية «باهيا»، وبين هذين السيناريوهين أو التصورين تنفتح الدلالة على عشرات التصورات حول عالم نسبى بامتياز، لا يخضع لشروط معدة سلفا، وإنما يحمل داخله جينات التحول والتغير باستمرار، هذا التحول الذى تقاومه الأفكار القديمة وتعتبره رجسا من عمل الشيطان. تبدأ مكائد الرجعية من محاولة الهيمنة على الذهنية العامة، من السيطرة على الوجدان العام، ودفعه صوب التنميط، والتلقى السلبى، وعدم المناقشة للأفكار ومراجعتها، وامتلاك عقل نقدى مسائل لها، وحين يفقد الإنسان عقله فإنه يفقد شرط وجوده الحى، ويتحول إلى جزء من طبقة الغوغاء كما سماها ماركس، والتى تضع نفسها دائما فى خدمة مكائد الرجعية. والغوغاء هنا ليسوا تعبيرا عن تصنيف اجتماعى، لكنه علامة على غياب التفكير أو حضوره، فالمتثاقفون الذين يتحالفون مع اليمين الدينى ويقدمون له مبررات للوجود، ويدافعون عن الجماعات المتشددة، ويقدمون غطاء سياسيا لقوى الإسلام السياسى، التى تقتل بدم بارد. وهؤلاء جميعهم، أى القتلة وداعموهم، يمضون بانحطاط لا نهائى فى طريق التكريس لواقع متخلف ودموى. وتسعى جماعات الإسلام السياسى للسيطرة على هذا الفضاء العام عبر تصوراتها الماضوية، وشيوخها المهيمنون على ذهنية أفرادها الخاضعين لهم امتثالا لمنطق السمع والطاعة، وتطبيقا للتصورات التراثية عن إمارة الجماعة، وغيرها من المفاهيم الخاطئة التى ضربت العقل العربى فى مقتل، فصار البعض من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وغيرها من المهن ذات الطابع العلمى، يرفعون راية العلم والمعرفة بيد، بينما يغتالون باليد الأخرى المنهج العلمى حين ينتمون لهذه الجماعات ويطبقون مقولاتها، وتكون المفارقة الساخرة حقا حين يصبح شيوخ التطرف ورموزه هم العلماء حقا فى وعى البعض واعتقاداتهم، ويكون التبرير للقتل، والعدوان شيئا عاديا ما دام صدر من الشيخ الذى لا يمكن أن يكذب أو يخطئ! إن الشيخ الذى خرج فى الفيديو الشهير ليعلن حلا ألمعيا من وجهة نظره البائسة للخروج من الأزمة الاقتصادية، يتمثل فى الغزو والجهاد، على أن يكون إعلان الجهاد موجها صوب إحدى الدول المتقدمة التى تتسم بوفرة مالية وتقدم لمواطنيها أعلى مستويات الدخل، وبغض النظر عن عبثية الواقعة ذاتها، وبؤس الفيديو الذى بثه تلاميذ الشيخ المتأسلف وأنصاره، فإن تفكيك هذه الحادثة كفيل بأن يخبرك بأن التحولات التى حدثت فى المجتمع المصرى فى الخمسين عاما الأخيرة تقريبا زلزلت الوجدان الجمعى، ودفعت به إلى أحضان الفكرة السلفية المستقرة، التى تكرس للماضى، وتخاصم الراهن، وتعادى المستقبل. فتصورات الشيخ السلفى عن حتمية الغزو، التى تبدو وكأنها حتمية تاريخية فى عرف الإسلام السياسى، تتطرق إلى كل شيء، ولم تكن غزوة الصناديق ببعيدة عن مرمى ذلك، فالذهنية المنتجة لكلا الحالين واحدة، وهنا تتحول الرجعية إلى فخ للشعوب، وإعاقة حقيقية فى سبيل تقدمها. وإذا كانت هذه الأمة قد عانت ولم تزل من إضفاء القداسة على التراث ورجاله، فإنها تعانى الآن أكثر من إضفاء بعض الأتباع قداسة حول شيوخهم، وبما يعنى الدخول فى دائرة مغلقة لن تنتهى من تقديس البشر، ومنحهم سمات أسطورية، لن تسهم فحسب فى تغييب الوعى، وإنما فى التكريس أكثر لحالة من الاستنامة للواقع ولكل ما يقوله محتكرو الحقيقة، وصناع اليقين المطلق. إن الفخ الأكبر الذى تنصبه الرجعية لشعوبها، يتجلى على نحو واضح حين تتسلط على أفكارهم، وتتعامل معهم بوصفهم قطيعا من الأغنام، فتجعل معاركهم وهمية للغاية، وكلها تمس ما كان، فتتحدث باسم الماضى، ومن ثم تتحول الجماعة البشرية معها إلى مسوخ شائهة. إن حبائل الرجعية ومكائدها تتعمق كل صباح، حين يخرج رجل يتاجر بالدين ليحرم السلام على أهلنا من المسيحيين، وحين يتم أسلفة الواقع المصرى، وتصبح قوى التشدد ألعوبة مهترئة فى يد قوى الهيمنة على العالم فى تحالفها القذر مع جماعات الإسلام السياسى لتفتيت العالم العربى، وتحويله إلى كيانات طائفية، لا تعرف سوى الحروب، والدماء، وتوغل الرجعية فى تعميق جراحنا أكثر حين تناهض الدولة المدنية وأمانيها فى عالم لا يعرف التطرف أو الإرهاب أو التمييز الدينى أو الطائفى، عالم لا يعرف اليقين الجاهز الذى يشبه يقين أهل «جواكيم/ كينكاس هدير الماء» وأصدقائه فى رواية جورج أمادو، عالم تتجدد أشواقه بتجدد قيمه المستمدة من كل ما هو حق وخير وجمال. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله