على الرغم من أن نظرية المعرفة قد قطعت أشواطا هائلة فى التفكير والبحث، والتحديث المستمر للأنساق الفكرية الحاكمة، فإن ثمة إصرارا لدينا فى الثقافة العربية على أبدية كل شيء، وتثبيته، ووضعه موضع الجاهز والمألوف، وبما يعنى أن الرغبة العارمة التى تنشأ فى الذهنية العربية لتنميط الأشياء هى أكثر من حاجة نفسية واجتماعية، وكأنها خلل بنيوى فى التفكير، وفى طبيعة النظرة إلى العالم، والواقع، والأشياء. إن العالم الذى لم يعد يعرف الثبات، والذى ينطلق من تصورات نسبية دائما، سيبدو هنا فى الذهينة العربية مستقرا، مألوفا ونمطيا، يعتمد على اليقين بوصفه أصل الأشياء؛ ولذا فالمفاهيم لدينا لا تحتمل سوى وجه واحد، والحياة تدور بين شقى رحي، ورؤية العالم تنحصر فى فسطاطين كبيرين، دون أى تعقيدات يحملها واقع مسكون بالتحول والاختلاف، وينهض على التعقد والتشابك، فهناك تأويلات مختلفة للواقع، وصور متعددة له، والتصورات الرومانتيكية التى ترى العالم إما خيرا محضا، وإما شرا مطلقا، تعد نتاجا لنظرة أحادية لم توسع من مداها فترى على نحو أعمق. وعندما بدأت بعض الأفكار ذات النزعة الحداثية تخترق القشرة الصلدة للثقافة العربية، على غرار المنهج البنيوي، كان التلقى العربى البائس لأفق النظرية البنيوية، وحصرها فى الإجراء النقدى المعتمد على فكرة الثنائيات الضدية أو المتعارضة، فى حين أن البنيوية نفسها طورت من أدواتها كثيرا فيما بعد، وبدت المناهج والنظريات النقدية والفلسفية بعدها حاملة هذا القدر من الوعى بقيم التعدد الخلاق، التى تحكم المفاهيم والتصورات بإزاء العالم، فليس ثمة مركز بعينه، ولكن هناك مراكز معرفية متعددة، وليس ثمة هامش وإنما قد يوجد الهامش الذى يُشكل المتن، وليس ثمة ثنائيات يقوم عليها العالم، وإنما تجاور بين صيغ ثقافية مختلفة. لقد ألقى السياسى بظله على المعرفى فى عالمنا المعاصر، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، وبداية عصر الهيمنة للقطب الأمريكى الأوحد، أصبح المركز الأورو أمريكى الفاعل الوحيد فى إنتاج المعرفة، وأداة السيطرة على حركة الأفكار وتشكلها فى العالم، غير أن طبيعة نظرية المعرفة ذاتها وقيامها على آليات التنوع والتعدد والتجاور، جعلنا أمام مراكز ثقافية مختلفة وإسهامات فكرية متعددة لا تتوقف عند ثقافة بعينها باعتبارها الرافد والمصدر الرئيسي، ومن ثم كان الوعى بمغالبة احتكار المعرفة وعيا بالمعرفة نفسها، وبقدرتها على ترسيخ كل ما هو حر وتنويرى بامتياز. وفى ظل هذه التحولات المعرفية والجدل الفكرى الصاخب فى العالم، لم تزل الذهنية العربية تحيا فى الماضي، تحاول تثبيت اللحظة دائما عند نقطة بعينها، ترى فيها المخرج والملاذ، وهذه النقطة تنتمى إلى قرون غابرة حيث يعتقد الكثيرون أن العودة بالزمن إلى الوراء ولمئات السنين يحمل المجد والنجاة، وينسى هؤلاء أن استعادة الماضى وتفعيل منطقه فى النظر إلى القضايا الراهنة سر نكبتنا الحقيقية، وجمودنا الراهن، فالذهنية الجامدة ذهنية ماضوية بالأساس، تحمل تصورات محددة سلفا، وتنطلق من يقين دامغ، وترى ماكان، خيرا مما هو آتٍ، وتجعل من القديم معيارا للجديد وحكما دائما عليه. إن الجمود حينما يسيطر على المناخ العام لأى جماعة بشرية فإنه لا يجعلها ترتمى فى حضن الماضى فحسب، ولكنه يحول دون امتلاكها وعيا ممكنا قادرا على الاستشراف، فتبدو مفصولة الرأس عن الجسد، واقعها يشير إلى زمن، ووعيها يشير إلى زمن آخر. تضع الذهنية الجامدة الجماعة الإنسانية على حافة الجهل والكراهية والتعصب، حيث تكرس للنعرات الطائفية والعنصرية، فيفقد معها الإنسان بهاءه الحقيقى فى كونه جديرا بالمعني، وممثلا لكل ما هو جميل وتقدمى ونبيل. لقد لعبت قوى الإسلام السياسى دورا مركزيا فى استبقاء الذهنية العربية عند حدود الماضي، ووظفت المقدس فى ذلك توظيفا كاملا، وتحالفت مع قوى الرجعية إيجاد حالة من الاستسلام للماضي، والاستنامة الدائمة، والأدهى أيضا أنها وضعت نفسها دائما فى خدمة المستعمر، مهما يتغير شكل الاستعمار أو يتبدل، فأصبحت وكيلا عنه لترسيخ التخلف والتمييز فى لعبة ماكرة صنعتها أجهزة مخابرات وساسة ومفكرون غربيون، ومتثاقفون عرب أيضا. إن جزءا مركزيا فى محاولة إيقاظ العقل العربي، وإخراج الذهنية العربية من محنتها التى رضيت بها، وتنعمت داخلها فى بؤس الفكر وفقره، سيعتمد فى نحو أساسى على تفعيل التفكير النقدي، وإعطاء مساحات أوسع للتأمل المستمر بإزاء الظواهر مهما تبدو درجة وضوحها، بما يعنى انحيازا للخيال الجديد، فى مواجهة التصورات القديمة، فخلخلة السائد والنظر إليه من زوايا مغايرة، ومساءلة الماضى وعدم الانصياع لمظاهره وأفكاره، تعد جميعها أمورا أساسية فى الخروح إلى النهار، حيث تكون الشمس أقوى من أى برهان، والضوء لامعا مثل روح مشعة تعانق السماء. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله