* ثار «على نظامه» وشكل «مجلسا رئاسيا» لإدارة البلاد فاستقال المشير عامر مرتين * «سرى للغاية»: القاهرة تعد «الخطة الشروق» لتدمير مفاعل ديمونا الإسرائيلى وتلوح بامتلاك القنبلة الذرية عام 1966 * أمريكا فشلت فى «رشوة» ناصر وخططت لإزاحته واغتياله بدعم «تحالف الظلام» حماية للمشروع الصهيوني * مؤامرة فى اليمن..والباخرة الرئاسية «المحروسة» تنقل السلاح إلى ثوار الجزائر.. ورسائل من كيندى حول الأزمة الكوبية * ديجول يعتبر «عدوان 67» معركة أمريكية.. والشعب السودانى يغسل أحزان الزعيم * شفرة ناصر من «الإذلال القومى» إلى «الكرامة»: لا نهضة مع التبعية..والبنك الدولى يعترف: الاقتصاد المصرى حقق معجزة * بريماكوف: «الديكتاتوريات العربية» مكانها «صندوق القمامة».. لكن ناصر «ساحر» عظيم
لم تتوقف حملات التشويه المدفوعة الأجر ضده يوما، جماعات ودول يؤرقها طيفه، يصابون بالرعب من تكرار مشروعه للاستقلال الوطنى، فيهاجمونه، ولم لا؟! حينما تضيق الدنيا بالفقراء يترحمون على جمال عبدالناصر، فى 25 يناير و30 يونيو، طافت صوره الميادين، طلبا للعدالة الاجتماعية أو خلاصا من حكم جماعة إرهابية، يعتبره بعضهم رئيسا فاشلا وديكتاتورا أدخل المنطقة فى نفق مظلم، ويراه آخرون قائدا ثوريا ورمزا عربيا عالميا. السجالات مشتعلة حوله كأنه لم يمت منذ قرابة نصف قرن، ومازال حيا يسير فى شموخ بجوار النيل.. مرات أتخيله غاضبا، كبحر عاصف بلا شطآن، ضاع كل ما صنعه هباء، وعادت الأمة إلى نقطة الصفر، يمرح الصغار والكبار فى الشرق الأوسط، تتلوث الجغرافيا ويحترق التاريخ، تتراكم بأرجائها الجثث، تطفو على فنجان قهوتى، كل صباح، هذه أمة مسكونة فى نقطة الصفر. بعض الذين خانوا الرجل بالأمس، نضبطهم اليوم متلبسين بجريمة أشد نكرا، محو ذاكرة الأمة بقسوة الجهل ووحشية المؤامرة، كمن يملك جوهرة ويظنها حجرا، فإذا ضاع لا يشعر بخسارة، يصوبون على ناصر، ومصر هى المستهدفة، يفزعهم أن تسترد وعيها وتستعيد مكانها اللائق إقليميا ودوليا!. إن الحفاظ على ذاكرة الشعوب حية ضرورة استراتيجية، خاصة عندما يكون الهدف إنقاذ الأوطان، من ثم يمكن أن نعتبر المشروع الوثائقى «جمال عبدالناصر.. الأوراق الخاصة» الذى أعدته نجلة الزعيم الدكتورة هدى عبدالناصر - صدر المجلد الخامس منه، أخيرا، عن المكتبة الأكاديمية- لبنة قوية فى صرح الحفاظ على الذاكرة الوطنية من التزييف، ولبناء الحقائق كما هى. المجلدات الخمسة أوراق لم تكتب للنشر، ملاحظات كتبها عبدالناصر بخط يده، فجاءت معبرة بصدق عن أفكاره وسياساته فى سياقات مختلفة. أوراق حميمة بلا تنميق أو إضافات، وتلك قيمتها التاريخية والسياسية شديدة الأهمية. اندلعت ثورة يوليو 1952 ولم تكن مصر ملكا لأهلها فصارت.. تابعة فاستقلت.. مستعبدة فتحررت..أصبحت زعيما للإقليم ورقما عالميا مهابا. لم يخل الأمر من خيبات وانكسارات، أما قائدها فيصح فيه قول المفكر الفرنسى أندريه مالرو: «بغض النظر عن كل شيء، النجاح أو الفشل، الانتصارات أو الهزائم، فإن عبدالناصر دخل التاريخ كتجسيد لمصر، كما دخل نابليون كتجسيد لفرنسا». فى هذه السطور لا نحاول عرض محتويات الكتاب، الحيز لايتسع، إنما مقاربة مضمون مجلد، يقع فى نحو 1200 صفحة من القطع الكبير، يفيض بوقائع بعضها يكشف عنه للمرة الأولى، خلال (1961- 1967)، تحت عنوان فرعى:«ثورة داخلية فى مصر وانطلاقة عربية وعالمية». تحاول هدى عبدالناصر تتبع سردية هذه الفترة المحورية فى تاريخنا المعاصر، بدءا من انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، بضغوط عربية وإسرائيلية وغربية، وصلت إلى حد التآمر لاغتيال ناصر، وانتهاء بنكسة يونيو 67، بضغوط أشد من الأطراف نفسها. ترسم أحداث الكتاب واحدة من أبدع صور دراما التاريخ وأشدها إيلاما فى حياة قائد وأمة، وجها لوجه يلقانا (مكر التاريخ) بامتداد خمسة فصول، يمكن تقسيمها قسمين: الأول عن تحولات الداخل المصرى، والثانى يتناول التفاعلات الإقليمية والدولية، مازال بعضها فاعلا بمصر والمنطقة والعالم. يلخص «ويلتون واين» معنى ثورة 23 يوليو، فى أنها قصة البحث عن الكرامة المفقودة، فى ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة الخطورة، يقول فى كتابه «عبدالناصر..البحث عن الكرامة»: إن تحليل التكوين الثقافى الوجدانى للرجل كفيل باطلاعنا على جذور قصة عبدالناصر مع الكرامة، نشأ فى بلد أهينت فيه كرامة الإنسان العادي، بين مطرقة السراى الملكية وسندان السفارة البريطانية، تم النظر إلى غالبية المصريين باعتبارهم كما مهملا، على نحو ما يذكر اللورد كرومر فى كتابه «مصر الحديثة»، شريحة محدودة العدد (نصف فى المائة) تدين بالولاء للاحتلال استأثرت بموارد الوطن، وزعوا على أفرادها آلاف الأفدنة، وقهروا الفلاح، تركوه فريسة للجهل والفقر والمرض. بات الوفد حزبا للأغنياء، تخلى عن قيادة الحركة الوطنية منذ موقفه فى 4 فبراير 1942، حاصر الانجليز بالدبابات قصر عابدين، وقالوا للملك فاروق: إما النحاس وإما عزلك. وبعد نكبة 48 وضياع فلسطين، صارت مصر شعبا موجوعا وجيشا مجروحا. تصوير اميل كرم يرى «سارتر» أن «الإنسان يمكن أن يكون فاعلا فى التاريخ، بشرط وعيه بإمكاناته المتاحة وحدودها، متى امتلك إرادة التغيير»، تكشف «الأوراق الخاصة» عن تخطيط ناصر لشق سبل التاريخ صوب المصلحة الوطنية القومية، شيد على أنقاض المعادلة القديمة «مصر والغرب» معادلة جديدة «القومية العربية والعالم»، دوائر وأبعاد، مركزها مصر الشعب واحتياجاتها الفعلية للتقدم صوب «استئناف رسالتها أو إسهامها فى الحضارة الإنسانية»، هنا لابد من النظر لخطورة التصور الغربى حول مصر، باستعلاء معرفى وتاريخي، يقول الفيلسوف رينان، فى «مستقبل العلم»:»مصر ليست أمة، إنها مدار رهان، تكون تارة مكافأة لعملية سيطرة (احتلال)، وتكون تارة أخرى عقابا على طموح لم يحسن تقدير قوته، وعندما يكون لبلد وأناس دور يطاول المصالح العامة للإنسانية، فإنه سيُضحى بهم من أجل ذلك، لهذا ستكون مصر محكومة على الدوام، من قبل مجموع الأمم المتحضرة»!، بالمقابل صاغ ناصر مسودة «مصر العظمى» المستقلة، وكيف لا؟!، وهو أستاذ مادة «الاستراتيجية» بالكلية الحربية، لأجل ذلك قال العبقرى جمال حمدان إن الناصرية قانون مصر السياسى الحتمى، حتى لو رفضت عبدالناصر وكرهته، هى فرض على كل حاكم مصرى وطنى. امتزجت عبقرية موقع الكنانة وقدراتها، مع نزاهة ناصر وثاقب فكره، لإنجاز نجاحات باهرة، كان شعور «الإذلال القومى» أمام جرائم الاستعمار البريطانى، محرك نهضة الصين الحديثة، ومنافستها الولاياتالمتحدة على صدارة العالم، هذا «الجرح النرجسي» بماضى الصين، يشبه الجرح المصرى، منذ احتل الإنجليز مصر عام 1882. ترصد «الأوراق» خطط ناصر لإحداث تحولات جذرية فى بنية المجتمع، لتذويب الفوارق الرهيبة بين الطبقات، أعاد صياغة شخصية مصر الاقتصادية، فلا يعيش أحد برفاهة وبذخ، أو دون مستوى الكفاف، أصدر قرارات الإصلاح الزراعى والتأميم وبناء السد العالى ومجانية التعليم والصحة وكهربة الريف والتصنيع، لاسيما الصناعات الثقيلة التى اعتبرها رأس حربة التقدم الاقتصادى والتفوق السياسى، وغيرها عبر خطط خمسية، وبرغم المشاركة الفاعلة من رجالات مجلس قيادة الثورة العسكريين، فإنه أفسح المجال واسعا للمدنيين، لإنجاز النهضة المرجوة، نذكر هنا بدور المهندس عزيز صدقى (أبوالصناعة المصرية).. تسارعت وتيرة التغيير، عقب انفصال سوريا فى 28 سبتمبر 1961(أول هزيمة لناصر)، حيث دشن إجراءات ثورية فى أسلوب الحكم، استبدل بمنصب رئيس الجمهورية «مجلسا رئاسيا»، من عدة أشخاص، كبداية لممارسة الديمقراطية- قد يصدمك هذا فالشائع أنه «ديكتاتور مستبد»!- استمرت التجربة شهورا، وكانت سببا فى تقديم المشير عبدالحكيم عامر وزير الحربية استقالته مكتوبة مرتين، لعدم رغبته فى ترك القوات المسلحة والانخراط بالمجلس الرئاسي. واصل ناصر إفساح المجال أمام مشاركة الشعب بالقرار السياسي، عبر تنظيم «الاتحاد الاشتراكى»، لإدراكه خطورة غياب السياسة فى الشارع، وخصص 50% من مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين. وبرغم ذلك لم يكن راضيا عن الأوضاع، كتب متسائلا:»ما المطلوب فى النهاية؟ ثورة على الثورة، إما من داخل الحكم بتغيير شامل، وهل هذا ممكن؟ وإما من الاتحاد الاشتراكى بتكوين نواة جديدة، والانتقال إلى الشعب». وفى عام 64 وجه نقدا شديدا لأداء الحكومة والمحافظين لارتفاع الأسعار والتضخم، وحذر من الانخداع ب «أسطورة رأس المال الأجنبي»- بحسب وصفه- فى تحقيق التنمية، فلا بديل عن الاعتماد على الذات، وإطلاق الطاقات الوطنية الكامنة، قائلا: لم يجيء إلينا سوى 8٫7 مليون جنيه استثمارات أجنبية فى عشر سنوات، وبألم مكبوت أشار إلى أن الأعداء يتربصون بنا داخليا وخارجيا. كان ناصر ألغى الأحكام العرفية «حالة الطوارئ» فى مارس 64، وأفرج عن الشيوعيين والمحكومين بقضايا سياسية والإخوان المسلمين، لكن الجماعة شكلت تنظيما سريا عام 65 لتنفيذ اغتيالات وتفجير المنشآت، عرف الرجل شبقهم للسلطة وتلمظهم للخراب، ووصفهم بأنهم حجر أساس «الثورة المضادة». لم تفلح العقبات الداخلية والخارجية فى عرقلة النهوض بالاقتصاد، كأن مصر فى لحظة الوعد، أتت الخطط الخمسية ثمارها، من عام 1957– 1967بلغ معدل النمو 7% سنويا، وفق تقرير البنك الدولى (870 – أ) عن مصر الصادر فى 5 يناير 1976، هذا معناه أن القاهرة أنجزت، فى 10 سنوات من عصر عبد الناصر، تنمية تماثل 4 أضعاف ما حققته خلال السنوات الأربعين السابقة عليها. نتيجة مبهرة لا مثيل لها فى العالم آنذاك، باستثناء اليابان وألمانيا الغربية. زادت الرقعة الزراعية 15%، وبدأ بناء السد العالى أعظم مشروع هندسى وتنموى فى العالم بالقرن العشرين، زادت الأراضى المملوكة لصغار الفلاحين إلى أربعة ملايين، انخفضت الأمية من 80% عام 1952 إلى 50% عام 1970؛ بفضل مجانية التعليم، ارتفع عدد الشباب بالمدارس والجامعات 300%- لا علاقة للمجانية بخطايا التعليم، حاليا، إنما سياسات تجريف العقل المصرى بعد ناصر، بالسمسرة وبيع كل شىء من الثوابت الوطنية- قدر ثمن القطاع العام فى عهده بنحو 1400 مليار دولار، فقد أبدى حرصا فائقا على التصنيع الثقيل، وتوطين التكنولوجيا وزيادة فرص العمل، أنشأ قلاع الحديد والصلب والألومنيوم وكيما والغزل والنسيج وغيرها، بالتوازى أطلق مشروعا طموحا مع الهند ويوغوسلافيا لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة. أنتجت مصر أول صاروخين باليستيين، بمساعدة علماء الصواريخ الألمان عام 1966، لتكون وسيلة العرب للتوازن و»الذراع الطويلة» بمواجهة إسرائيل المدججة بأحدث الطائرات الغربية. كان البرنامج النووى المصرى يتأخر بفارق بسيط، عن نظيره الإسرائيلى المدعوم فرنسيا وأمريكيا، وقد هدد عبدالناصر، فى فبراير 1966، بشن حرب وقائية ضد إسرائيل لكبح مسيرتها نحو القنبلة الذرية، وفى «أوراقه» «تقرير سرى للغاية» عن التجهيزات، تحت عنوان «العملية الشروق»، كما أبلغت مصر فرنسا عن طريق وزير الثقافة ثروت عكاشة أنها قد تلجأ لصناعة القنبلة النووية، بحسب تقرير رفعه عكاشة إلى الرئيس. نظر عبدالناصر إلى التصنيع العسكرى بوصفه «سد عالى عسكرى». وبعد وفاته، وئدت هذه المشاريع، وراجت السخرية من فعالية صواريخ «الظافر» و»القاهر». ولو استحضرنا ما تفعله صواريخ المقاومة الفلسطينية من رعب للكيان الصهيوني، حاليا- أو ما وصلت إليه إسرائيل والهند فى التصنيع العسكرى والسلاح النووى- لأدركنا بعد نظر ناصر، وخطورة مشروعه النهضوى على المشروع الأمريكى- الصهيونى. لم يتأخر يوم الحساب للتجربة، فى 5 يونيو 1967 شنت أمريكا وإسرائيل حربا عدوانية، لإجهاض مشروع النهضة العربى، حربا وصفها الرئيس الفرنسى شارل ديجول بأنها «معركة أمريكية وأداء إسرائيلي»!. وبرغم النكسة تحمل الاقتصاد المصرى عبء إعادة بناء الجيش من الصفر، دون مديونيات خارجية، لقد نسفت التجربة الناصرية افتراضات الاقتصاد النيوليبرالي، وهى شاهد على أن تاريخ اجتثاث مقدرات التنمية، وما لحق بنا من كوارث هو تاريخ النيوليبرالية فى بلادنا. وقبل أن انتقل من القسم الأول إلى القسم الثانى من «الأوراق الخاصة، تذكرت قول رئيس الوزراء الروسى الأسبق يفجينى بريماكوف لصحفى عربى:»العرب فى غيبوبة طويلة، عرفت دولهم أكثر من ديكتاتور. بعضهم كان يفترض أن يكون نزيل مستشفى المجانين، وبعضهم كانوا أدوات بلهاء جرت برمجتها لتنفيذ سيناريوهات محددة، ثم يلقى بها فى صناديق القمامة..لكن عبد الناصر (ديكتاتور ساحر)، سحر العقل الذى يصغى بدقة لمن يطرح أمامه الأفكار، وسحر القلب الذى يلاحقه هاجس المعوزين، تشكل ضده الكارتل العربي-الإسرائيلي- الأمريكى ليكون سقوطه ذات صباح حالك فى يونيو»!. الحقيقة أن العرب لا يحتاجون إلى ديكتاتور من أى صنف.. ومن باب الاحتراز الموضوعى فإن ناصر هو أول زعيم مصرى يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية، وضع يده على الصيغة المثلى لسياستها الخارجية، لم يخترع الصيغة، لكنه أول من تشرب بها وطبقها عمليا، صاغ فى كتابه «فلسفة الثورة» خريطة جيوبوليتكية لمصر، عبر تحديده لدوائر السياسة الخارجية: الدائرة العربية، تحيطها الدائرة الأفريقية وتشملهما معا الدائرة الإسلامية، ثم عدم الانحياز فى المسرح العالمى. ساند حركات التحرر ضد الاستعمار كأحد أهم دروس الجغرافيا السياسية، الاستعمار (عنكبوت) عليك أن تقطع كل خيوطه المحيطة بك، حتى لا تلتف حولك ثانية. عندما تولى ناصر حكم مصر، كانت الأمة مفتتة، ترزح تحت الاستعمار الغربى، زرعوا إسرائيل عنوة بأرض فلسطين لفصل المشرق العربى عن مغربه، قاعدة إمبريالية بأهم منطقة إستراتيجية، حيث مخزون النفط الأكبر، ولوأد أى مشروع نهضوى بالوطن العربى. على الصعيد العالمى كانت الحرب الباردة مشتعلة بين الرأسمالية والشيوعية على مناطق النفوذ والسيطرة، ومن ثم أدرك الزعيم المصرى أن هناك تلازما خبيثا بين التجزئة والتبعية والتخلف من جهة، وتلازما حميدا بين التكامل والوحدة والنهضة والتحرر من جهة أخرى، إن وحدة العرب شرط لتغيير ديموقراطى حداثى وبناء مجتمعات حديثة فى بلدانهم. طمح ناصر إلى تحقيق قوة ذاتية للعرب تدافع عن مصالحهم، وتتعامل بشراكة ونديّة مع المحيط الإقليمى والدولي، كانت دعوته للوحدة بمثابة «الطريق البروسى العربي»، فى أول محاولة جدية منذ أيام محمد على باشا، يحقق الاستقلال القومى ويدمر علاقة التبعية، ويقزم هيمنة الإمبريالية والقوى الإقليمية إسرائيل وتركيا وإيران. يتجلى أمام ناظريك، وأنت تقلب الفصول الثانى والثالث والرابع والخامس، من»الأوراق الخاصة»، عظمة إرث عبدالناصر، معاركه مع الاستعمار وأذنابه، على الجبهات العربية والإفريقية والدولية، وبجردة حساب لمعركة السويس ثم معركته ضد مبدأ أيزنهاور وحلف بغداد، خرج ناصر زعيما، ومصر القائدة المركز للأمة. تواصل صراع المصائر حكايات أغرب من الخيال، كان ناصر نقطة اللقاء الكبرى لإرادة الأمة، جعل «فلسطين» قضية مركزية للشعوب العربية، فحاولت الإدارة الأمريكية شراءه بالمال، كما فعلت مع حكام آخرين بالمنطقة، أثارت هذه الوقاحة سخط الرجل، مبنى «برج القاهرة» ينتصب شاهدا على رفضه الانبطاح لرغبات واشنطن. قبيل رحيله أبدى الرئيس الأمريكى أيزنهاور ندمه لأنه عارض غزو مصر سنة 1956، وتفويت فرصة للقضاء على جمال. ما فعله ناصر قلب الموازين بالشرق الأوسط، لمصلحة شعوبها، على حساب الهيمنة الغربية، لو قارنا أوضاع الدول العربية الآن، من تدمير وقتل ونهب، لتأكدنا أن الرجل كان على حق فى عرقلة الهيمنة الخارجية على بلادنا، بسد الثغور وكبح الأزمات. لايرى الغرب فى العرب سوى صناديق أو براميل تتقيأ المال والنفط، العجيب أن دولا عربية ناصبت ناصر العداء، حاولت اغتياله فى سوريا لإفشال الوحدة، ولما قامت الثورة فى اليمن وأرسل وحدات محدودة من الجيش المصرى إلى صنعاء، لمد الشعب اليمنى بخدمات المدارس والمستشفيات، اغتنمها بعضهم فرصة للانتقام من مصر عبدالناصر، شنوا حربا شعواء على القوات المصرية، بالتعاون مع بريطانيا وإسرائيل والمخابرات الأمريكية وعرب آخرين لاستنزافها، اضطرت للدفع بقوات إضافية، ثم سعى ناصر لعقد اتفاق سلام للانسحاب، رفضوا التنفيذ، وأغرقوا مصر أكثر فى المستنقع اليمني، لمحاصرة حضورها بالإقليم، وضعوها فى كسارة البندق وشدوا أطرافها، خدمة للمشروع الصهيونى-الأمريكي، وكان ذلك أحد أسباب هزيمة يونيو.. ما أشبه الليلة بالبارحة. لم يتوقف ناصر يوما عن دعم حركات التحرر العربية والإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية، بكل ما أوتى من قوة، لدرجة أنه وافق على استخدام الباخرة الرئاسية «المحروسة» فى نقل السلاح الثقيل إلى ثوار الجزائر، مثلما ذكر فتحى الديب مسئول ملف حركات التحرر العربية، بكتابه «عبدالناصر وعرب المهجر». وحظيت الدائرة الأفريقية باهتمام بالغ، يكفى أن نذكر دور القاهرة المحورى فى الصراع بالكونجو، ودعم كفاح شعوب القارة السمراء، من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها، ترسم «الأوراق الخاصة» لوحة بانورامية ساحرة، لفن التوظيف الاستراتيجى المصرى لعلاقاتها المتينة مع الأشقاء الأفارقة، ردت هذه الشعوب الجميل لمصر، لاسيما بعد هزيمة 67، قطعت علاقاتها مع تل أبيب، ولاتكاد تخلو عاصمة إفريقية من شارع أو ميدان أو جامعة باسم جمال عبدالناصر. يقول الأكاديمى الأفريقى المرموق «على مزروعى»:إذا كان العرب شاركوا بتجارة الرقيق فى استعباد أفريقيا، طيلة قرون، فإنهم كفروا عن الخطيئة، حين جاءوا وراء جمال لتحرير أفريقيا»، من المستحب هنا قراءة كتاب محمد فائق»عبد الناصر والثورة الإفريقية». ومعلوم دور مصر المؤسس لحركة عدم الانحياز، كتلة (عالمثالثية) غير مسبوقة شكلت رقما على الساحة الدولية، فى ظل الاستقطاب بين القوتين العظميين، كما كانت مصر أول دولة عربية أو إفريقية تعترف بالصين الشعبية، لم تنس بكين هذا الموقف للقاهرة حتى الآن، لمست ذلك بنفسى خلال زيارة إلى الصين ولقاء بمقر الخارجية الصينية. اتسع نفوذ مصر حتى عبر المحيطات، تبادل الرئيس الأمريكى كينيدى الخطابات مع ناصر، حول الأزمة الكوبية وغيرها، أفردت الدكتورة هدى عبدالناصر الفصل الأخير من «الأوراق الخاصة» لوثائق العلاقات بين القاهرة وكل من واشنطن وموسكو وبكين ووارسو. فحين فشلت أمريكا فى رشوة ناصر والسيطرة عليه، فرضت عقوبات وقطعت المعونة وحظرت تصدير القمح لمصر، وصولا إلى مشاركتها فى عدوان يونيو، ظلت إسرائيل شوكة دائمة فى خاصرة علاقات الدولتين، وواصلت أمريكا والغرب ضمان تفوقها على العرب، عسكريا وتقنيا، ومازالت واشنطن تلهو بعذابات القوم، تستنزف ثروات بعضهم، وتطمع بأراضى آخرين، إن التريليونات التى يدفعونها لأمريكا وغيرها، كانت كفيلة بأن تحقق لهم زعامة العالم العربي، لو استخدموها لتنمية الدول العربية، ولمنحهم ذلك من أسباب القوة ما لا تستطيع واشنطن ضمانه لهم. إنها الحسابات الخاطئة، تتراكم أخطاء كارثية من (زعامات عربية) طارئة، بينما تنتهز إسرائيل فرصة الاستتباع العربى لتعزيز سطوتها، بل إن دولا عربية بالتحالف مع إسرائيل تارة أوتركيا أوإيران تارة أخرى، تحاول تقزيم مصر، بضرب مصالحها المائية أوالاقتصادية أوالسياسية، أو بدعم جماعات الإسلام السياسي، هكذا تتحالف المخططات الغربية والبترودولار لتخريب أوطاننا.إزاء تلك الوضعية المعقدة، يحق للشعوب العربية أن تتساءل: إلى أين المسير؟ وإلى متى تستمر الأزمات؟.. أسئلة تتجه مباشرة إلى أحد مفاتيح الحراك التاريخي، لأنه من المحزن أنه بعد عقود من التحرر الوطني، أن ينتهى العالم العربى إلى تناحر الأعراق والأديان، والفشل فى بناء نظم حكم ديمقراطية، بالتوازى مع هيمنة القوى الدولية والإقليمية على الشأن العربى، ليظل مستقبل بلادهم مخطوفا ونهبا لأوهام الزعامة المغموسة بالدماء؛ لقد آن أوان الاعتراف بإفلاس كثير من العناوين والادعاءات. رحل عبدالناصر بكل ما له وما عليه، لكنه بقى حكاية غير منتهية فى وجدان الأمة، تجربته ليست فوق النقد أو المساءلة، فلا قداسة أوعصمة لزعيم، حكم الشعب هو الأصدق على الزعماء، ديكتاتوريين أم ديمقراطيين، وقد قال المصريون والعرب كلمتهم بحق عبدالناصر، خلال لحظات الانتصار والانكسار والتنحى وحتى الوفاة. فى أثناء مؤتمر الخرطوم بعد النكسة، أحاط السودانيون ناصر بحفاوة أسطورية، أعادت له الروح المعنوية واستأنف بناء الجيش الذى انتصر فى أكتوبر 73. الموعظة الحسنة، أنه مازال مطلوبا استنقاذ بلاد العرب من براثن المخططات المسعورة، أولى الخطوات هى الحفاظ على الذاكرة الجماعية، وأحسب أن كتاب «الأوراق الخاصة» للدكتورة هدى عبدالناصر يسد فراغا مهما بالمكتبة العربية بهذا الصدد، ويكشف عن خصوصية مصر وتفردها، لكن توظيف الخصوصية فى إطار الدور هو ما يحدد وجهتها صوب الحضارة والتقدم، أوالانحطاط والتخلف. إذن لا مفر لاستئناف مسيرة النهضة من توظيف الخصوصية فى «رسالة» تمكن مصر من تحقيق ذاتها المبدعة، دولة مستقلة قوية غنية، داخليا وخارجيا، حدد جمال حمدان شروطها: وضوح الهوية وانتمائها العربى الإسلامى إلى الحضارة الإنسانية، الاستقلال القومى، الديمقراطية فى نظام الحكم والنظام الاجتماعى على السواء، التوازن فى توزيع الثروة الوطنية. عندئذ يمكن للمحروسة أن تحرر نفسها من قبضة التخلف، وتحلق بأجنحة لا تحترق فى وهج الشمس.