فى حديثه عن الحريات الدينية فى مؤتمر الشباب بشرم الشيخ قال الرئيس عبد الفتاح السيسى: «إن للمواطن الحق فى أن يعبد كما يشاء أو لا يعبد لأن ده موضوع إحنا لانتدخل فيه». ثم استطرد قائلاً: إن الدولة معنية بأن تبنى الكنائس لمواطنيها فى كل مجتمع جديد لأن لهم الحق فى العبادة كما يعبد الجميع. ولو عندنا يهود هانبنى لهم، ولو عندنا فى مصر ديانات أخرى سنبنى دور عبادة خاصة بهم. والسؤال اذن: ما المغزى فى عبارات الرئيس؟: المغزى يكمن فى أن الرئيس يقف على مسافة واحدة من المؤمنين من جميع الأديان أو حتى غير المؤمنين بأى ديانة، أى أنه ليس منحازاً إلى أى من المطلقات التى يلتزم بها المؤمنون. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن تعامله مع هؤلاء يخلو من مفهوم المطلق. وإذا كان مفهوم النسبى هو بديل مفهوم المطلق فالفكر السياسى للرئيس يتسم بالنسبية بالضرورة. والسؤال اذن: هل ثمة مفارقة فى هذا القول؟. الجواب بالإيجاب، إذ المفارقة تكمن فى أنه يكون بذلك أول رئيس ينحاز للحرية الدينية فى تاريخ مصر منذ الفراعنة حتى الرئيس الأسبق حسنى مبارك. ففى الحضارة الفرعونية كان فرعون فى البداية ابن حورس ابن ايزيس ثم أصبح ابن رع، وفيما بعد أصبح رع ، أى إله الشمس ، ومن ثم أصبح فرعون هو الحاكم المطلق. وقيل إن الفرعونية انتهت مع بداية مؤسس مصر الحديثة محمد على، ومع ذلك فإن محمد على لايذكر إلا وتذكر معه الدولة العثمانية باعتبار أن مصر كانت تابعة لهذه الدولة. ولا أدل على ذلك مما ورد فى كتاب رفاعة الطهطاوى المعنون: «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، إذ جاء فيه أن رفاعة يحذر القارئ من الاعتقاد فى صواب ما ورد فى الشذرات الاثنتى عشرة لفلاسفة التنوير التى ترجمها من الفرنسية إلى العربية، إذ هى، فى رأيه، محشوة بكثير من الضلالات المخالفة لسائر الكتب السماوية. ثم استطرد قائلاً إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه الضلالات. ومن هنا طالب رفاعة القارئ بأن يكون متمكناً من القرآن والسُنة حتى لا يفتر عن اعتقاده وإلا ضاع يقينه. وإذا كان ذلك كذلك فالسؤال اللازم إثارته هو على النحو الآتى: لماذا ترجم؟ : إنه ترجم إرضاء لمطلب نابليون بالترويج لفلاسفة التنوير الفرنسيين، وحذر من قراءة الترجمة إرضاء لمطلب محمد على، وهو المطلب الذى يلزم أن يؤثره رفاعة على مطلب نابليون ولن يتم هذا الايثار إلا بتشويه التنوير الفرنسى. ثم القول بأن محمد على هو مؤسس مصر الحديثة هو قول فى حاجة إلى مراجعة من قبل المؤرخين المصريين من غير إحساس بالإثم، لأن مسألة المراجعة لن تقتصر على محمد على بل ستمتد إلى ما بعده، وأعنى بذلك الرؤساء الذين جاءوا بعد ثورة يوليو 1952 حتى ثورة 25 يناير 2011، فكلهم بلا استثناء كانوا منحازين إلى فكر الإخوان المسلمين. فعندما قرر مجلس الوزراء فى 14 يناير 1954 حل جماعة الإخوان المسلمين انضم زعماؤها فوراً إلى تأييد اللواء محمد نجيب، وفى 28 مارس من العام نفسه قرر مجلس قيادة الثورة إعادة تشكيل الحكومة مبعداً اللواء محمد نجيب عنها وعن مجلس قيادة الثورة. وبالرغم من إطلاق ثمانى رصاصات من إرهابى ينتمى إلى التنظيم السرى للإخوان المسلمين على جمال عبد الناصر أثناء مهرجان شعبى فى الاسكندرية فإن عبد الناصر كان ملتزماً بما قاله للمرشد العام حسن الهضيبى من أنه سيطبق مبادئ الإخوان المسلمين فى مجال التعليم، وقد كان، إذ عين كمال الدين حسين أحد أقطاب الإخوان وزيراً للتعليم. ولم يفطن عبد الناصر إلى خطورة هذه المبادئ إلا فى عام 1971 عندما عينني مستشاراً سرياً له فى القصر الجمهورى لشئون التعليم قبل وفاته بستة أشهر. أما الرئيس السادات فمنذ أم توليه على السلطة دخل فى علاقة عضوية صريحة مع الإخوان المسلمين، ثم قال: أنا الرئيس المؤمن، ثم أردف قائلاً: أنا فرعون مصر والديمقراطية لها أنياب. وهكذا تلاحمت الإسلامية مع الفرعونية. وعندما اغتاله أنصار الأصولية الاسلامية فى 6 أكتوبر 1981 تصاعدت الإسلامية وبقيت الفرعونية على حالها مع مراعاة إيثار الاسلامية سراً من غير اعلان فى زمن حسنى مبارك الذى أخفى هذا الإيثار بلفظ المحظورة فى سياق لفظ هو على النقيض وهو لفظ المحظوظة. وقد عبرت عن هذه العلاقة الملتبسة بين الاسلامية والفرعونية فى مقال نشرته بجريدة المصرى اليوم بتاريخ 24/ 12/ 2010 تحت عنوان «فراعنة مفيد شهاب». وكان مفتتح المقال عبارة قالها رفيع المقام الأستاذ الدكتور مفيد شهاب حين كان وزيراً للشئون القانونية والمجالس النيابية جاء فيها: إن مصر دولة مركزية بطبعها منذ أيام الفراعنة، وكل شىء فيها على يد شخص واحد. ثم علقت قائلاً: إن تصريح مفيد شهاب يعنى أن الحزب الوطنى الديمقراطى فى غياب العلمانية لن يكون ديمقراطياً. واختتمت بهذا السؤال: هل فى إمكان الحزب الخروج من هذا المأزق؟. وعندما اندلعت ثورة تونس بعد ذلك بأسبوعين أعادت جريدة المصرى اليوم نشر ذلك المقال وفى أعلاه الجواب تونس. وبعد أسبوعين اندلعت ثورة مصر فى 25 يناير. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة