كتب علينا أن نعيد معاركنا كل عقد من الزمن، وكتب علينا أن نعيد الأسئلة نفسها كل عقد من الزمن، ويبدو أنه كتب علينا أن يكون تنويرنا وفخرنا الثقافى آتيا من الماضى، كأنه تنوير بأثر رجعى، فالقضايا والمعارك التى خاضها جيل طه حسين وأقرانه هى القضايا نفسها التى نتداولها الآن ويثور حولها نقاشنا ومعاركنا،مثل: الدين أو العلم؟ الغرب أم الرب؟ الفصحى أم العامية؟ تراثنا مقدس أم قابل للنقد؟ مصر عربية إسلامية أم بحر متوسطية؟ الفكر يجابه بالفكر أم بالقضاء والمحاكم؟ وعشرات من الأسئلة غيرها ولا إجابة ولن تكون منذ ابتلينا بجماعات تقدس الخرافة وتؤله الأشخاص وتجعل من المعتقدات الشعبية دينين ومن آراء البشر حول الدين دينا، والدين الحقيقى غارق فى الغبار والرمل. وهى كلها معارك خاضها طه حسين ........................................................... ارتكز مشروع طه حسين للنهوض بالفكر المصرى، حول هذه الأسئلة والمعارك واشتبك مع تحديث الثقافة فى مصر بشكل أساسى، فالثقافة هى كل ما يختص بسلوك البشر واحتياجاتهم، بما فيها الدين، فالدين جزء من الثقافة الإنسانية، وليس كل الثقافة الإنسانية أو منشئ الثقافة الإنسانية، وملامح مشروعه تكونت فى كتابه الأهم «مستقبل الثقافة فى مصر»، وقد طبع منذ تأليفه فى النصف الأول من القرن العشرين مئات الطبعات، لكن الخائفين، وأدعياء الهوية، شَّوشوا عليه، وعلى كل إنتاج طه حسين الفكرى، ومع ذلك ظل حيا، والبعض يرددون ما جاء فيه، وهو يرى أن الثقافة المصرية لا تنتمى للمنطقة العربية، تحديدا الجزيرة العربية، وإنما هى ثقافة بحر متوسطية، تتماس مع الثقافة اليونانية وهى إليها أقرب، بل إن الثقافة اليونانية، تأثرت بالثقافة المصرية، كما يقول طه حسين: فالعقل المصرى القديم ليس عقلا شرقيا، إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند، وما يتصل بها من الأقطار، وقد نشأ هذا العقل المصرى، فى مصر متأثر بالظروف الطبيعية والإنسانية التى أحاطت بمصر، وعملت فى تكوينها، ثم نما وربا، وأثر فى غير الشعب المصرى من الشعوب المجاورة وتأثر بها، وكان من أشد الشعوب تأثرا بهذا العقل المصرى أولا، وتأثر بها، وكان من أشد الشعوب تأثرا بهذا العقل المصرى أولا وتأثيرا فيه بعد ذلك، العقل اليونانى، فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصرى نقره فيها، فهى أسرة الشعوب التى عاشت حول بحر الروم، وقد كان العقل المصرى أكبر العقول التى نشأت فى هذه الرقعة من الأرض سنا وأبلغها أثرا. فى هذه الفقرة من مستقبل الثقافة فى مصر، حدد طه حسين الانتماء الجغرافى للعقل المصرى، سيقوم بعد ذلك فى «على هامش السيرة» وفى «الشعر الجاهلى» بتفكيك الثقافة العربية الوافدة على هذا العقل، وهو ما كفر بسببه، ثم بقى عليه أن يحدد مكونات هذا العقل من خلال نظام تعليمى قوى، استغرقت تفاصيله جملة كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، والمكونات التى قرأها طه حسين جاءت فى فقرة مطولة تقول: فليس من الحق، ولا من الخير فى شىء أن يكون الغرض الأول والأخير فى التعليم العالى هو البحث العلمى الخالص المبرأ من كل منفعة قريبة أو بعيدة، ليس هذا حقا ولا خيرا، لأن الأمم لابد أن تحيا حياتها، وليست حياة الأمم والأفراد عقلا خالصا، ولا معرفة خالصة، إنما حياة الأمم والأفراد علم ينتج العمل، معرفة تمكن من الاضطراب فى الأرض والسيطرة على عناصر الطبيعة، والتغلب على ما يعترضنا من العقبات، وليس من الحق ولا من الخير أن يكون التعليم العالى مادة كلها أو وسيلة إلى المادة، لأن العقل المادى الخالص خليق أن ينحط إلى أيسر مظاهر الحياة، إنما الحق والخير أن يكون التعليم العالى مزاجا من هذين الأمرين جميعا فيه البحث الخالص عن العلم الخالص، وفيه البحث العملى عن الفنون التطبيقية التى تستنبط من هذا العلم الخالص نفسه والتى لا يمكن أن توجد ولا أن تنتج، إلا أن تعيش، ولا أن تتيح للناس ما ينعمون به من الحضارة، وما يتقبلون فيه من الترف بدون هذا العلم الخالص نفسه. يحتوى مشروع طه حسين الذى جاء فى «مستقبل الثقافة فى مصر» على معركتين أساسيتين من ناحية موضوعاته أولاهما تتناول قضية الهوية والانتماء والتوجه الحضارى، وثانيتهما تتناول قضايا التعليم والثقافة فى مصر، فى الجزء الأول الخاص بالانتماء المكانى للفكر المصرى يرى طه حسين: أولا أننا لا نعرف أن هناك صلات بيننا وبين الشرق البعيد مستمرة ومنتظمة تؤثر فى تفكيرنا أو نظمنا، ثانيا، إن الصلة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية لم تجاوز الشرق القريب «الشام والعراق» أى الشرق الواقع فى حوض البحر المتوسط، ثالثا: إن علاقات مصر كانت حقيقية مع حضارة اليونان فى عصور ازدهارها، منذ القرن السادس قبل المسيح إلى أيام الإسكندر. هل يعنى ذلك أن نندمج فى الحضارة الأوروبية، الإجابة أشار إليها د. أحمد زكريا فى تقديمه لكتاب مستقبل الثقافة فى مصر حين نقل رأى طه حسين لمجلة الهلال حول سؤال: حضارتنا القادمة فرعونية أم غربية؟ وكان رأى طه حسين: أنه إذا كان لابد أن يدلى برأى حول الخيارات المطروحة، فالمثل الأعلى فيما يعتقد هو أن نحتفظ من الحضارة المصرية القديمة بما يلائمنا وهو الفن، ومن الحضارة العربية بالدين واللغة، وأن نأخذ من الحضارة الأوروبية، كل ما نحتاج إليه، وليس فى هذا شر، ما دمنا نحتفظ بشخصيتنا المصرية، فلا تفسد علينا هذه الحضارة الأوروبية حياتنا. الجزء الثانى من الكتاب وهو خطة عمل وافية، درستها لجان تطوير التعليم مئات المرات، ولم تخرج منها بشيء لأنها لم تفهمها، أو ربما هى لا تريد، وكان من أهم نقاط هذه الخطة هو تطوير التعليم الأزهرى بجانب قضايا أخرى مثل: مسألة التعليم الأجنبى فى مصر، وديمقراطية التعليم ومجانيته ليكون وسيلة فى يد الأفراد ليستطيعوا أن يعيشوا وتكوين الوحدة الوطنية، وإشعار الأمة حقها فى الوجود المستقل الحر، وهو ما طبقه طه حسين بعد ذلك عندما أصبح وزيرا للمعارف، ثم ثالثة القضايا تتمثل فى تعليم اللغات الأجنبية فى مصر، التى ينبغى أن تكون بعد المرحلة الابتدائية، وأن تخصص المرحلة الابتدائية للثقافة الوطنية، فنحن نشكو أن تلاميذنا لا يحسنون لغتهم العربية، ثم يضاف إلى تلك اللغات غير الإنجليزية والفرنسية اللغتان اليونانية واللاتينية. وبعد ذلك تأتى مسألة تعليم اللغة العربية، ثم الترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية، وفيها يرى طه حسين أننا أقل الأمم حظا من الترجمة، واقترح أن تنشىء الدولة إدارة للترجمة لتنهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التى أصبحت تراثا للإنسانية كلها والتى لا يجوز للغة حية أن تخلو منها، وذلك لإغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة ولإرضاء الكرامة القومية. يختم طه حسين بخصائص الثقافة المصرية، ويحاول تشخيص مميزات هذه الثقافة بعد أن يتساءل: هل هناك ثقافة مصرية؟ ويجيب بأنها موجودة بخصالها وأوصافها التى تنفرد بها عن غيرها من الثقافات، وأول هذه الصفات أنها تقوم على وحدتنا الوطنية، وتتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية القديمة أيضا، تتصل بوجودنا المصرى فى حاضره وماضيه، فليست الثقافة دينية خالصة ولا إنسانية خالصة، لكنها وطنية وإنسانية معا. وعناصر هذه الثقافة، كما يرى طه حسين، تتمثل فى التراث المصرى القديم، والتراث العربى الإسلامى، وما كسبته وما تكسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة، هى هذه العناصر المختلفة المتناقصة فيما بينها، تلتقى فى مصر، فيصفى بعضها بعضا، ويهذب بعضها بعضا، وينفى بعضها عن بعض، ما لابد من نفيه من الشوائب التى لا تلائم النفس المصرية، ثم يتكون منها هذا المزاج النقى الرائق، الذى يورثه الآباء للأبناء، وينقله المعلمون إلى المتعلمين، فالعلم لا وطن له، لكنه إذا استقر فى وطن من الأوطان تأثر بإقليمه وبيئته، ليستطيع أن يتصل بنفوس ساكنيه.