عندما قصرت مصر طائعة أو كارهة في ثقافتها فقدت حريتها وأضاعت استقلالها. الكلام لعميد الادب العربي دكتور طه حسين وهو محور كتابه مستقبل الثقافة في مصر الذي صدر بعد معاهدة1936 بهدف رسم طريق المستقبل لمصر.. وهل للوطن مستقبل بلا ثقافة. طه حسين كعادته الملهمة للعقل والتفكير والجدل يدخل إلي موضوع ثقافة مصر من زاوية مختلفة ومثيرة.. هل ثقافة مصر غربية أم شرقية؟ المثير هو الإجابة التي يخلص اليها عميد الادب العربي وهي أن مصر ثقافتها غربية بالجغرافية والثقافة والتاريخ ولا علاقة بينها وبين الشرق إلا علاقات سطحية.. ولكي يخرج من المأزق وحتي يستبق الهجوم عليه فإنه يشرح أن المقصود بالشرق هو الشرق الأقصي أي الصين واليابان.. الفكرة يفهمها ذوو العقول, والرسالة يجب أن تصل كما يريد, مصر غربية الثقافة. فالعقل المصري اتصل بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولي اتصال تعاون في الفن والسياسة والاقتصاد وبدأت هذه العلاقة منذ القرن السادس قبل الميلاد وتعمقت أيام الاسكندر. كان اليونان يرون أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفنونها الرفيعة بنوع خاص. كما كانت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبري في العالم ومصدرا من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم. وخضوع مصر للرومان لم يمنعها من أن تظل ملجأ للثقافة اليونانية طوال العصر الروماني. لكل ذلك وغيره يخلص عميد الأدب العربي الي أننا إذا أردنا أن نلتمس المؤثر الأساسي في تكوين الحضارة المصرية وتكوين العقل المصري فمن الحق أن نفكر في البحر المتوسط والظروف التي أحاطت به والأمم التي عاشت حوله. ويطرح السؤال الصعب ما بال هذا البحر ينشئ في الغرب عقلا ممتازا ويترك الشرق بلا عقل؟. لكن الإجابة كلا ليس بين شعوب البحر المتوسط فرق عقلي أو ثقافي ما, وليس هناك عقل أوروبي يمتاز عن العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب وإنما هو عقل واحد تختلف عليه الظروف ولكن جوهره واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف. وليس لاختلاف الدين واللغة تأثير, فتطور الحياة الإنسانية قضي منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان بابا للوحدة السياسية, ولا قواما لتكوين الدول, ودليل العميد علي ذلك أن المسلمين عدلوا عن الوحدة علي أساس الدين منذ القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الاموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق. ومضي المسلمون بعد ذلك في إقامة سياستهم علي المنافع وحدها ولم يأت القرن الرابع حتي ظهرت القوميات وانتشرت في البلاد الاسلامية. وكانت مصر من أسبق الدول في استرجاع شخصيتها القديمة التي لم تنسها في يوم من الأيام, فرضاها عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة, فلم تهدأ إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة علي يد أحمد بن طولون والدول المختلفة التي قامت بعده. فالمسلمون, يقول صاحب مستقبل الثقافة, فطنوا منذ عهد بعيد الي أصل من أصول الحياة الحديثة وهو أن السياسة شئ والدين شئ آخر, كما ان أوروبا أقامت سياستها علي المنفعة لا علي الوحدة المسيحية. والإسلام الذي دخل مصر لم يخرجها من عقليتها الأولي ولا جعلها أمة شرقية كما يفهم من الكلمة الآن, فالمسيحية ظهرت في الشرق وغمرت أوروبا فهل أصبحت أوروبا شرقية؟ وإذا صح أن المسيحية لم تمسح العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة ولم تجرده من خصائصه التي جاءته من اقليم البحر المتوسط فيصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري. وأكثر من ذلك يقول طه حسين إن انتشار الاسلام في الشرق البعيد ساعد علي مد سلطان العقل اليوناني وبسطه علي بلاد لم يكن زارها إلا لماما. وعندما أخذت مصر طريق النهضة مع بداية القرن العشرين أخذت بأسباب الحياة الحديثة كما يعيشها الأوروبيون بلا تردد حتي أصبحت حياتنا أوروبية خالصة في مرافق الحياة وأدواتها بداية من الطرق الحديدية ومرورا بالمسكن والملبس وصولا إلي أنظمة الحكم المطلق منها والديمقراطي, ونستطيع القول إن مقياس رقي الأفراد والجماعات في الحياة إنما هو بمقدار الأخذ بأسباب الحياة الأوروبية. نحن إذن مدفوعون دفعا الي الحياة الحديثة بطبائعنا وعقولنا التي لا تختلف منذ العهود القديمة عن عقول الأوروبيين. وإذا كنا نريد الاستقلال العقلي والنفسي فيتحتم علينا كما يقول العميد أن نتعلم وسائله كما يتعلمها الأوروبي ونعمل كما يعمل ونحكم كما يحكم, والطريق إلي ذلك هو بناء تعليم علي أساس متين. والدولة وحدها يجب أن يوكل إليها أمر التعليم في مصر, لأنه إذا كان هناك تعليم فرنسي وإنجليزي وإيطالي وأمريكي فكل أنواع هذا التعليم لا تفكر في مصر وإنما في فرنسا وانجلترا وايطاليا وأمريكا. يجب أن يتعلم الشعب الي أقصي حدود التعليم, ففي ذلك وحده الوسيلة لأن يعرف مواطن الظلم. كما أن اللغة العربية اذا لم تنل حظها من الإصلاح فسوف تصبح لغة دينية يحسنها رجال الدين وحدهم, لأنه لا يتكلمها الناس في البيوت ولا الشوارع ولا الأندية ولا المدارس ولا حتي الأزهر نفسه. لكن ما هي الثقافة المصرية؟ يجيب دكتور طه حسين: إنها وحدتنا الوطنية التي تتصل بالماضي القديم والحاضر أيضا, إنها الذوق المصري, ليس ابتساما خالصا ولا عبوسا خالصا, ولكن شيئ بين ذلك فيه كثير من الابتهاج وقليل العبوس, انه الاعتدال المصري المشتق من اعتدال مناخها والذي يأبي علي الحياة المصرية أن تسرف في التجديد. والثقافة ليست وطنية خالصة ولا انسانية خالصة ولكنها وطنية وانسانية معا وهي في أكثر الأحيان فردية, وثقافة مصر هي شخصيتها القديمة الهادئة وشخصيتها الباقية الخالدة. لمزيد من مقالات محسن عبد العزيز