جاءت دعوة رئيس الجمهورية إلى إعادة النظر فى قانون الجمعيات الأهلية ووصفه بأنه به عوار، لتوفر قوة دفع للنقاش الدائر حول طبيعة التعديلات والبنود المطلوب تغييرها، وإن كان متوقعا أن يتحول النقاش إلى جدل حول عدد من الرؤى المتوازية وليس المتقاطعة، لدور ومسئوليات الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة كجزء من المجتمع المدنى،نظرا لما تعكسه هذه الرؤى من تباين فى الأهداف والأولويات والادراكات، وهنا يمكن طرح ثلاث رؤى رئيسية، أولها رؤية حكومية تنطلق من كون المنظمات الأهلية أداة من أدوات الحكومة تسعى من خلالها إلى سد الفجوة فى الخدمات التى يتطلبها المجتمع، ووسيلة لتنمية المجتمعات المحلية ودعم أطر التكامل والتضامن المجتمعى، ومد أنشطة وبرامج الرعاية والمساعدات الاجتماعية إلى ربوع الوطن. وهى الفلسفة والرؤية التى حكمت علاقة الدولة بالجمعيات الأهلية وتحديدًا منذ إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية عام 1939 ومرورًا بسلسلة القوانين منذ القانون 49 لعام 1954 وانتهاءً بالقانون 70 لعام 2017، حيث بدت الجمعيات عاكسة للتوجهات والأولويات الحكومية، بدرجة اقرب من التوجهات المجتمعية. أما الرؤية الثانية فترتبط بمنظمات المجتمع المدنى الحقوقية، التى تعانى فى معظمها أزمة ثقة مع الدولة، وتداعيات تسييس قضايا حقوق الإنسان من قبل المنظمات والقوى الدولية، ومن نخبويتها ومحدودية تأثيرها، ولذا تنطلق فى رؤيتها إلى تغليب المنظومة الحقوقية الدولية وآلياتها ويحكمها روح البقاء فى تفعيل العديد من الأطر الداخلية والخارجية لإعطائها مساحات للحركة والنشاط لا تتوافق مع الهواجس التى تفرضها أزمة الثقة وتوسعها الضغوط الدولية. وأما الرؤية الثالثة والتى تتبناها غالبية المنظمات الأهلية (والتى بلغت نحو 49 ألف جمعية أهلية) فيغلب عليها الطابع الانتقائى فى النقاش حيث تركز على المزايا والإعفاءات التى يوفرها القانون، والتحفظ على العقوبات وتدخلات الجهة الإدارية، وإن كان من الملاحظ، أن الغالبية العظمى خاصة الصغيرة والمتوسطة تكون خارج أى نقاش أو حوار، بل توافق رؤية الحكومة على دعم الأعمال الخيرية والرعائية والمساعدات يوفر اطمئنانا لغالبية تلك الجمعيات، فضلا عن أن طبيعة أنشطتها وبرامجها لا تمثل حساسية أو صداما مع الجهة الإدارية فى الغالب. هذه الرؤى التى تعكس فلسفات ورؤى متباينة للعمل الأهلى، تشير بوضوح لجانب من جوانب عدم القدرة على تطوير دور ومسئوليات وقيم القطاع الأهلى وبناء مجتمع مدنى قوى راسخ قادر على صياغة أجندة تنموية داعمة لعملية بناء الدولة ومستندة إلى منهاج تشاركى حقيقى بين القطاعات الثلاثة (حكومى، أهلى، خاص). كما أن هذه الرؤى تشير أيضًا إلى تباين فى الأولويات تترجمها بوضوح إدراكات ومنظور كل طرف إلى الطرفين الآخرين وتوقعاته للأدوار والمسئوليات، وهى تعكس بوضوح عملية تحليل خريطة القطاع الأهلى ومنظماته وفى مقدمتها الجمعيات الأهلية حيث تشير إلى غلبة الخيرى والدعائى والمساعدات على التنموى والحقوقى، وتراجع دور الجمعيات المركزية، ومحدودية الجمعيات التى يمكن أن نسميها جمعيات مظلة راعية وداعمة للجمعيات القاعدية وغلبة التوظيف الدينى والسياسى، رغم إقدام الجهة الإدارية على حل 1064 جمعية تابعة للإخوان المسلمين، فلاتزال هذه السمات تمثل قيدا يحول دون تطوير وبناء مجتمع مدنى قوى أو حتى دور لتلك المنظمات يكون قادرا على مواجهة التوترات المجتمعية، والظواهر الاجتماعية السلبية، وحالة الاستقطاب التى تعكسها العديد من المشكلات المجتمعية. كذلك تشير التجارب والخبرات السابقة، إلى أهمية كسر الحلقة المفرغة التى صاغتها هذه الرؤى والتى غلبت سمات الضعف والهشاشة على معظم مؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى والتى جعلته قابلا للتوظيف السياسى والدينى، وقابلا للاختراق، وداعيا لثقافة وقيم تتصارع مع قيم وثقافة سائدة وراسخة فى المجتمع. بمعنى أدق، إن الرؤى التى تحتوى بداخلها على الكثير من الحساسيات والتراكمات تدفع نحو كثير من التحفظات والقيود القديمة، ما لم تتوافر رؤية وفلسفة جديدتان. رؤية تنطلق من فلسفة داعمة للعمل الأهلى تساعد على الجمع والمزج بين الأدوار والمسئوليات والقيم الحاكمة للمنظمات الأهلية والأدوار والمسئوليات والقيم التى يمكن أن تلعبها وتصيغها مؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى. وأن تستند إلى أدوات وآليات جديدة تساعد على التشبيك والنهج التشاركى للتنمية والمسئولية المجتمعية . رؤية يبدأ الحوار حولها، وفلسفة يُعاد صياغتها قبل الحديث عن القانون وبنوده وصياغتها، فتغيير الفلسفة وتحديد الأدوار والمسئوليات، ومن ثم، التوافق عليها يسهل عملية الصياغة ويرشدها، فالتوافق على الرؤية والفلسفة يجب أن يسبق التوافق على القانون وبنوده، وهى النتيجة التى يجب استخلاصها من الخبرة السابقة. واتساقًا مع استخلاص الدروس، يجب أن يشمل الحوار إعادة صياغة أدوار ومسئوليات وأجندة المجتمع المدنى ومنظماته وفى القلب منها الجمعيات الأهلية. وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من المحددات والركائز والأدوات التى تتطلبها الرؤية الجديدة، منها: التوافق على منهاج العمل، وهل سوف يستند إلى الشراكة والتوازن فى الأدوار والمسئوليات بين الحكومة والقطاع الأهلى، أم سوف يستند إلى الخبرة القديمة الداعمة لدور متعاظم للدولة فى تحديد النمط التنموى والأدوار وتوجيهها. التوافق على مفهوم الأمن القومى ومهدداته وبما يتواكب مع طبيعة المرحلة الراهنة وحجم التهديدات التى تحيط بالدولة المصرية فى محيطها الإقليمى والدولى، وبحيث لا تجعل من قضية التمويل الاجنبى ( دولى وعربى) وتسييس حقوق الإنسان هما المهددين والموجهين لعناصر الضغط على الدولة، ولكن يجب أيضا الأخذ فى الاعتبار ترسيخ الأمن الاجتماعى ودور المنظمات الأهلية فيه كمسألة حاكمة. زيادة المكون التنموى فى أنشطة وبرامج الجمعيات الأهلية، تتطلب صياغة أطر تكاملية لدعم الأنشطة الخيرية . وهو ما يقودنا للتساؤل عن نقطة الانطلاق الراهنة، وقدرتها على تجاوز منهاج الحلول الجزئية وما تفرضه التوازنات السياسية داخليًا وخارجيًا من تحديات وقيود، أخذًا فى الاعتبار أن منهاج الحلول الجزئية والتقليدية لن يكون قادرًا على مواكبة التحديات الاقتصادية والتنموية ولا المتطلبات الاجتماعية التى يفرضها الواقع الراهن. لمزيد من مقالات د. أيمن السيد عبد الوهاب