قبل سنوات قلائل, وضمن حديث لاذع أطلق مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف مقولته الشائنة( طظ في مصر). وقبل أشهر قلائل أفصحت رموز إخوانية, في مناسبات شتي, عن حلمهم المثير بخلافة إسلامية, انطلاقا من عاصمة هي القدس لا القاهرة. تلك المدينة التي يمكن اعتبارها عاصمة التاريخ إذ ورثت أقدم عواصم مصر وحواضر الزمن: منف وهليوبوليس, وصولا إلي الفسطاط والقطائع.. إلخ. وقبل أسابيع قلائل تجاهل الشيوخ السلفيون الأعضاء في الجمعية التأسيسية عزف السلام الوطني( المصري) فلم يقفوا مع الواقفين, ولم يرددوا تلك الكلمات الحميمة, ولم تهتز أجسادهم مع أفئدتهم توقا وتأثرا واستجابة لتلك النشوة التي تسري في أجسادنا, وتمسك بأفئدتنا, حينما تشنف آذاننا موسيقاه, أو تزينها ترنيماته. قد يذهب المرء إلي أجمل المدن وأغني الدول, ممتطيا الفضاء المزدحم بأزهي الطائرات, ينزل بأفخم الفنادق ويركب أرقي السيارات, يأكل ما لذ له ويشرب ما طاب, يشاهد ما سمع عنه في الأساطير, أو قرأ عنه في الكتب مما يثير الخيال, يسير في شوارع وادعة بلا ضجيج, ويتدفق عبر ميادين واسعة بلا عشوائيات وقمامة وفوضي.. غير أن الحنين سرعان ما يداخله, والشوق يكاد يقتله, توقا إلي عود متكرر, يشبه العود الأبدي, إلي حيث ولد وعاش, رغم الزحام الذي يغالبه والفوضي التي تكاد تخنقه والقبح الذي كثيرا ما يلاحقه, برغم سيارته العرجاء التي بالكاد تتحمله, وشارعه الذي تكسوه القمامة, وتتوسده الحفائر, وتعلوه المطبات؟.. إنه الوطن الذي صنعناه جميعا, ورثناه أبا عن جد, فأضفنا إليه وأخذنا منه, وسنتركه لأبنائنا وأحفادنا يضعوا بصمتهم عليه كما وضعنا, يعيشوا فيه كما عشنا فيه وعاش فينا, إنه صورتنا في مرآة الزمن, فعلنا في التاريخ, حلمنا منذ الأبد وتوقنا إلي الأزل, لهذا كان الوطن أبا وأما, جسدا ونفسا, عقلا وروحا, ولو كان البيت خرابة والشارع زقاقا, والحي فقيرا. وفي المقابل لا يعطي المتأسلمون الوطن تلك القيمة ولا يرونه بتلك العين, والمواطن لديهم ليس الجار القريب, زميل العمل أو رفيق النادي والحزب والنقابة, إنه فقط الشريك في العقيدة السلفية أو الإخوانية, الأخ في الله, الذي قد يبتعد كثيرا في الأرض وصولا إلي أقصي الشرق في باكستان وماليزيا وربما الصين والهند, وإلي أقصي الغرب في قلب أمريكا الفاجرة حيث كانت الغزوة الناجحة, وروسيا الملحدة حيث الشيشان الصامدة, وأوروبا الصليبية حيث البوسنة الشامخة, فجميع هؤلاء إخوان حقا, مواطنون فعلا, شركاء في وطن متخيل, ولكن حضوره يفوق الوطن الواقعي, إنه الوطن الذي يشتاق إليه حقا فلا يزدريه أحد ولا يتجاهل رموزه أحد, ولا يملك أيا من كان أن يقول له طظ.. الوطن الذي يضم مواطنين مفترضين ولكنهم أقرب إلي النفس من المواطنين الحقيقيين, من هذا الليبرالي عن اليمين, وذلك القبطي علي اليسار, والذين هم فجار وربما كفار, يزاحمونهم بأجسادهم من دون أن يقاربوهم بأرواحهم, ينادون بقيم بالية, ويتمسكون بانتماءات وثنية, منها الانتماء لذلك الذي يسمونه( وطنا). ولكن ما سر هذا الاختلاف وذاك التباين بين هؤلاء الذين يعشقون أوطانهم, وأولئك المنكرين له؟. بين من يضعون الوطن علي رءوسهم من دون افتئات علي الدين الذي موضعه القلب والضمير, وبين من يضعونه تحت أقدامهم, مطية لتصورهم عن الدين, ذلك التصور الذي يخرجه من لحاء القلب والضمير والباطن, إلي سدي الزي والجسد والظاهر, يرتدونه ثيابا, ويطلقونه لحي, ويجعلونه هاجسا مؤرقا لا نبعا رائقا؟. يكمن السر في رؤيتين جوهريتين ولكن متناقضتين للعلاقة مع الله, جل شأنه, ومن ثم لموقع الإنسان في العالم ودوره في الوجود: أما الرؤية الأولي: فترجع إلي التيار المنفتح في الوعي الثقافي العربي, والذي يمكن تجذيره في تربة العقل الإسلامي التأسيسي الممتد من الفقه إلي علم الكلام إلي الفلسفة.. من أبي حنيفة والشاطبي إلي المعتزلة إلي ابن رشد. يفضي هذا التيار إلي الاحتفاء بالوطن كنتاج للإبداع الإنساني, ولقدرة العقل علي مراكمة خبراته والاستفادة من تراثه, وإعمال معاييره, حيث أثبتت النزوعات الواقعية, والخبرات التاريخية جميعها أن الوطن كفضاء جغرافي يحتوي علي بيئة معينة وثروات مقدرة, وتكوين سياسي له ملامحه ومحدداته, هو الرابطة العملية الأوفق لحياة البشر كجماعات قادرة علي النهوض بأعباء العيش, وعلي التضامن في مواجهة الآخرين طلبا للحماية والأمن. وبتزايد الإرتباط بالأوطان في الحقبة الحديثة, صارت تلك الرابطة أعمق, وصار لها رموزها من علم ونشيد وسلام وطني وتيمات ثقافية وأزياء شعبية وغيرها من رموز تجعل الوطن معلما مشهودا. وهكذا يصير الاحتفاء بالوطن احتفاء بالإنسان نفسه, بقيمته ودوره وقدرته علي الترقي والتطور, والنهوض بمهمته الاستخلافية التي أمره الله بها. وأما الرؤية الثانية فترجع إلي التيار المنغلق في الوعي الثقافي العربي, والذي يمكن تجذيره في العقل التأسيسي الإسلامي الممتد من الفقه لدي مالك وابن حنبل إلي علم الكلام حيث الجهمية والأشعرية, وصولا إلي الغزالي الصوفي الذي حاول تأميم الفلسفة. هذا التيار يميل إلي الاستعلاء علي الوطن فلا يعطيه التقدير الكبير لأنه ليس إلا اختراعا حديثا, محض بدعة, ومن ثم ضلالة, لا تمت إلي الله بصلة. ولأن كل ضلالة في النار فمن المفترض في المؤمن الكيس الابتعاد عنها طلبا للسلامة. وبرغم أن كثيرا من مفردات القرآن الكريم فضلا عن روحه تتحدث عن حب العشيرة, وأهمية الانتماء لجماعة, من دون نفي حب المؤمنين جميعا, والانتماء لرسالة الإسلام الكونية, يتجاهل هذا التيار ذاك المغزي وما يرتبه من قيمة للوطن, معيرا كل جهده لشراكة الإيمان وحدها باعتبارها الرابطة الوحيدة( المقطوع بها نصا) لصوغ كيان الجماعة المؤمنة, وإن تمددت من الشرق إلي الغرب, ومن الشمال إلي الجنوب, وإن تغير الزمن وتمايزت الأحوال علي نحو يستحيل معه حصرها, والتحكم في تنظيمها, فيما الوطن الذي يظلنا جميعا, إذ نعيش علي أرضه ونتمتع بحمايته, يصير أمرا عابرا برغم كونه الحقيقة الراسخة, إلا أنها حقيقة( مرة) يقبلونها علي مضض. لا يحتفي هذا التيار إذن بالوطن, كونه من عمل الإنسان, وهو لا يحتفي أصلا بالإنسان, وكونه نتاجا للعقل, وهو لا يحتفي أصلا بالعقل, وكونه خلاصة للتجربة التاريخية, وهو لا يحترم لا التجربة ولا التاريخ باعتبارهما ليسا إلا تجسيدا لل( مدنس), فيما لا يقدر هو سوي الإلهي ال( مقدس). وبرغم اتفاقنا معه علي تقدير ما هو إلهي, إلا أننا نؤمن بأن العقل, لا النص وحده, يمثل عطاء إلهيا, وأن خبراتنا واجتهاداتنا التي راكمناها عبر التاريخ ليست إلا استثمارا لذلك العطاء واحتفاء به, ولذا نؤكد احترامنا للوطن, لأن في ذلك احتراما لجوهرنا العقلاني الذي منحه الله لنا, قرينا وضمانا لرسالة استخلافنا علي الأرض, تلك التي لا تكون ولا تقوم من دون بناء الأوطان, مدخلا لترقية الحضارة. المزيد من مقالات صلاح سالم