تشير الدراسات الجادة الى تأكيد الفرض القائل بأن التنمية الاقتصادية شرط أساسى للديمقراطية، أو على أقل تقدير تمثل العامل المساعد الأهم... فالعمليات السياسية والبنى الاجتماعية تتفاعل مع بعضها البعض، وأن الانتقال الى الديمقراطية بمعناها الواسع والعلمى الذى أكدته كل التجارب المشابهة فى العالم، يجب النظر إليه على أنه مكمل للعمليات الاقتصادية والاجتماعية وأن الضرورة الملحة للديمقراطية يمكن تفسيرها كأساس للتكامل الاجتماعى او ببساطة من أجل حسن فهم وتقدير المجتمع.. ولكى يستطيع المواطنون الوصول الى مستوى معقول ومقبول من التنمية يجب ان تتكاتف جميع المؤسسات بما فيها المواطنون أنفسهم للوصول الى هذه الغاية. إن الفئات الأقل دخلا الذين يمثلون العمود الفقرى والرئيسى للقوى الاجتماعية فى مصر اذا لم يتح لهم أن يروا بارقة أمل فى تحسين أحوالهم بالوسائل الديمقراطية، فلن يجدوا الديمقراطية جديرة بدعمهم، وهنا لا يتعلق الامر بمجرد نوعية الديمقراطية، بل سيتعلق بامكانية بقائها فى اى شكل من الأشكال، وهذا ما يمثل خطرا كبيرا. وعطفا على ذلك فإن التحديات الهائلة التى مرت بها البلاد، وتعدد الأزمات وتشعبها والتى تعد الازمة الاقتصادية احد اهم أبعادها تفرض على اى نظام سياسى ان يحدد اولوياته ويقرر انحيازاته الاجتماعية والاقتصادية ولكن شرط ان تتسم هذه الانحيازات بالصراحة والشفافية.. فلا مجال لإخفاء الحقائق والتلاعب بمشاعر المواطنين بوعود كاذبة ومخادعة ومضللة الغرض منها فقط هو استلاب قدرة وإرادة المواطنين بخطابات وشعارات واهية.. من هنا تكون الاهمية القصوى لما يسمى بأهمية الحكومة المنفتحة للديمقراطية.. والحكومة التى تتسم بذلك هى حكومة قابلة للنمو وتحقيق إنجازات على ارض الواقع بلا مبالغة او قسوة.. والحكومة المتفتحة لها اربعة محاور رئيسية اولها قيام الحكومة ذاتها بتوفير معلومات وقائعية عن سياساتها التى ترتكز عليها وآثارها عمليا وتكلفتها والقواعد التى تحكم تطبيقها... وثانيها إمكان اطلاع الرأى العام سواء بطريق مباشر أو غير مباشر على جميع هذه الاستراتيجيات.. وثالثها انفتاح افراد الحكومة (الوزراء ومعاونيهم) على جميع قوى المجتمع السياسية لعرض خططها والمتوقع من تنفيذها.. ورابعها هو تشاور الحكومة بصفة منتظمة مع اصحاب المصالح المعنية فى صوغ وتنفيذ سياساتها، وهو ما يؤكده دائما الرئيس فى رسائله الى المواطنين فى الخطب الرسمية او حتى فى الرسائل التلقائية.. فبعد تجربة رئاسية كاملة زادت قناعة الرئيس بأهمية المكاشفة والصراحة فى التعامل مع كافة التحديات الاقتصادية.. حتى ان قرارات الاصلاحات الاقتصادية التى تمت مؤخرا ورغم آثارها الجانبية الفجة والصعبة والتى تمس اكبر قدر من الفئات الاجتماعية، فانه لم يتوان ان يصارح المواطنين بها وان تكلفة الاصلاح غالية وعالية... لقد منح الرئيس لحكومته الفرصة لوضع استراتيجيات جديدة للتعامل مع هذه الأزمة التى وعد هو شخصيا ان يكون صريحا وواقعيا مع شعبه الذى اختاره وقرر انحيازه للفقراء فى أكثر من مناسبة.. الا انه دائما ما يفعل ما هو أفضل عندما يصارح الشعب فى كلماته التلقائية غير المكتوبة (والتى يكون لها أثرها الايجابى أكثر من أى خطاب مكتوب سابقا) بان المهمة صعبة وانه لا يملك عصا سحرية، وتذكيره دائما بانه كان أمينا منذ البداية عندما اكد ان الصعاب يمكن تخطيها سويا رئيسا وحكومة وشعبا.. وبالتالى فالاتجاه المميز الذى أراده لحكومته ألا تتسم بإحاطة أنشطتها وخططها بسياج من السرية لحماية الاخطاء او الانحرافات او لتحافظ ببساطة على قناعتها بانها هى الاوسع معرفة.. فلا يمكن مواجهة هذه النزعة بشكل فعال إلا بانفتاح الحكومة على شعبها بكل صراحة وصدق وشفافية..فلا الحكومة تعمل فى غرف مغلقة وتدير ملفات لشعب آخر. ولا الشعب يسير هائما فى ضباب من القرارات. ولكن يبقى السؤال المهم.. هل فقط تتطور المجتمعات بصدق النوايا والشفافية والصراحة والانفتاح على الشعب؟؟ من المؤكد انه لابد من حماية... وهذه الحماية هى تفعيل قوانين المراقبة والمساءلة والمتابعة. فترسيخ قيم الدولة العصرية لا يتحقق الا بتوافر شرطين اساسيين هما: (دولة قوية ومؤسسات فاعلة وانحياز سياسى واقتصادى لصالح الغالبية العظمى من المواطنين) اى ما يطلق عليه القدرة على تحقيق اكبر قدر من العدالة الاجتماعية بما لا يخل بمبدأ تماسك النسيج الاجتماعى.. فلا مجال لإفقار الجميع، وأيضا لا تهاون مع الفاسدين والمرتشين والطفيليين تحت حجة الاقتصاد المفتوح. فالمطلوب حقا هو التوازن الكفء بين معايير الاقتصاد المفتوح القائم على تعظيم الاستثمارات سواء الداخلية او الخارجية، وتعظيم دور القطاع الخاص للقيام بمهامه التحديثية، وبين دور الدولة المنظم للدفاع والحفاظ على مصالح القوى الاجتماعية التى تمثل الاغلبية من الفقراء ومحدودى الدخل.. من خلال ذلك التفاعل والتوازن يتحقق او يقترب من التحقق للمجتمع الديمقراطى المنشود.. ومن هنا تتبدد الخيالات وتنكشف الضلالات التى ترسخ بان الديمقراطية هى فقط صناديق الانتخاب ومعظم انواع الحريات المنصوص عليها بكل المواثيق سواء الدولية او المحلية والتى تتغنى بها المؤسسات والأفراد اصحاب المصالح الضيقة، مختزلين القضية فى حريات التعبير.. فهذا المجتمع لا يمكن ان يحقق شروطه إلا من خلال عقد يشتمل على مبادئ هذه الديمقراطية التى تستوعب الظرف الاستثنائى الذى تمر به البلاد من ازمات اقتصادية كبرى مع غياب لقيم العمل ذ التى هى فى الاصل اساس قيم التقدم. فالمجتمع الديمقراطى لا يتحرك فى فراغ ولا الى فراغ، وانما يتحرك بدوافع الارتقاء والتطور وتحسين ظروف معيشة المواطنين ذ كل المواطنين ذ اذا كنا بالفعل نبحث عن دولة قوية وديمقراطية وعادلة.. فلا مجال لصيحات جمعيات حقوق الانسان، ولا لتابوهات فاترينات الديمقراطية المعلبة.. فلا حرية ولا كرامة فى دولة دون عدالة اجتماعية.. اى تلبية لحقوق المواطن الأساسية. لمزيد من مقالات ◀ صبرى سعيد