البطالة واحدة من أوجه متلازمة مركبة نتجت عن نسق من الاقتصاد السياسي أقامه نظام الحكم الساقط أهدرت العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, كليهما, لمصلحة الإثراء الفاحش لعصبة الحكم التي أحاطت بالمتسلط الأكبر, فيه ظل الفشل التنموي الذي تسبب فه الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه. وبناء عليه تمثل المحاولة الفعالة لمتلازمة البطالة الفقر في مصر أحد المداخل الرئيسية لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة, في العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, في سياق مشروع للنهضة تقوم عليه دولة تنموية قادرة, وحيث التشخيص نصف العلاج, كما يقال, نبدأ بفحص أسباب متلازمة البطالة الفقر. كثيرا ما يدعي البعض, لاسيما كبار رجال الأعمال, أن التعليم يتحمل المسئولية الأكبر عن تفشي البطالة في مصر لأنه يخرج شبابا قليلي القدرات والمهارات, وأنهم لا يجدون شبابا أكفاء للعمل بمشروعاتهم التي تتطلب مهارات وقدرات متطورة, وأن الشباب يأنفون من فرص العمل الجيدة المتاحة لديهم, خاصة علي خطوط الانتاج. والكاتب يتفق مع الزعم بتردي جودة التعليم وضعف قدرات ومهارات الخريجين, ولكن الأسباب الحقيقية لتفشي البطالة تتعداه إلي شبكة مركبة من الأسباب, يتعين فهمها إن أردنا التوصل لحلول ناجعة للمشكلتين التوأم البطالة والفقر. والواقع أن تدهور التعليم وتفشي البطالة وجهان, مرتبطان, لظاهرة الفشل التنموي ذاتها, وكما أنهما جزءان من المشكلة يتعين معالجتهما أيضا كأجزاء من الحل. ولنبدأ ببيان معالم هذا التزاوج الخبيث بين البطالة والفقر, تكتسي البطالة أبعادا مضرة بالتنمية الإنسانية من حيث أنها تطول في المقام الأول الشباب من الفئات الاجتماعية الأضعف, وغالبيتهم من المتعلمين في مصر. ويؤدي انتشار البطالة بدوره إلي تفشي الفقر, ففي بلد كمصر لا يمتلك أصولا رأسمالية إلا قلة قليلة من الناس. ومن ثم تعني البطالة التحاق من لا يتمكنون من الحصول علي دخل من العمل بصفوف الفقراء. وتعاني الفئات الضعيفة في المجتمع مستويات أعلي من البطالة ومن ثم الفقر. هكذا, يزيد الطين بلة أن المستوي الراهن, بالغ الارتفاع, من البطالة يطول في الأساس فئات اجتماعية تتسم غالبيتها بانخفاض مستوي المعيشة بداية وفي سياق من ضعف شبكات الحماية الاجتماعية, لاسيما تعويضات البطالة المقررة في كثير من البلدان المتقدمة. ومن ثم, يترافق مع انتشار البطالة استشراء الفقر وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة. ولا يخفي أن هذه التركيبة المتفجرة من الظروف تضر بالرفاه الإنساني وبالاستقرار الاجتماعي ضررا بليغا. وللبطالة مستويان: السافرة بمعني أن شخصا يبحث عن عمل ولا يجد عملا علي الإطلاق, وتقديرنا لهذا النوع من البطالة في مصر لا يقل عن ربع قوة العمل المصرية, اعتمادا, ضمن مؤشرات أخري, علي نتائج عملية تسجيل المتعطلين التي قامت عليها الحكومة المصرية ذاتها, برئاسة عاطف عبيد منذ سنوات في عام1002, فقد أعلنت الحكومة وقتها عن توافر071 ألف فرصة عمل, وطلبت من الراغبين في العمل تقديم طلبات, والمدهش أن تقدم أكثر من مليونين( أي ثمانية أضعاف فرص العمل المعروضة), علي الرغم من أن عملية التقديم انطوت علي تكلفة وجهد. وتحولت عملية التقديم إلي مظاهرات تطالب بالعمل في تسع محافظات. ويجب هنا عدم الاعتداد, مطلقا, بالاحصاءات الزائفة التي تنشرها الحكومة أحيانا لتبييض سجلها الاقتصادي الأسود. أما المستوي الثاني من البطالة, والأقرب لمفهوم الفقر, فيقوم علي عدم الحصول علي عمل جيد, والعمل الجيد هو الذي يوظف فيه الفرد قدراته وكفاءاته بفعالية ما يضمن له تحقق الذات, ويجري تحت ظروف عمل إنسانية, ويحقق كسبا يكفي للوفاء بالاحتياجات علي مستوي كريم. ويلاحظ أن مفهوم البطالة هذا قد يضم أناسا مشتغلين فعلا ولكن في أعمال غير جيدة, لا تناسب مهاراتهم وقدراتهم, أو تحت ظروف عمل غير إنسانية, أو لا تدر كسبا يضمن العيش الكريم. وتقديري أن مدي انتشار هذا الصنف من البطالة في مصر لا يقل علي الإطلاق عن نصف قوة العمل وقد يقارب ثلاثة أرباعها. ونؤكد أن الخطير في مسألة البطالة لا يتعلق فقط بحجمها ولكن بتضاريسها. فالبطالة, من النوعين, لا تصيب الجميع علي قدم المساواة, وإنما يعانيها المستضعفون بدرجة أعلي من المتوسط, فترتفع معدلات البطالة بين الشباب والنساء والفقراء, بينما يجد أبناء العصبة القابضة علي مقاليد القوة في البلد فرص عمل مغرية ومجزية بسهولة. وبهذا يحق القول إن البطالة تكرس الفقر في المجتمع وتعيد إنتاجه, وتزيد من ثم من الاستقطاب الاجتماعي من خلال ضرب عدالة توزيع الدخل والثروة, علي حين يفترض في المجتمع السليم أن يكون العمل آلية فعالة للصعود الاجتماعي. وننتقل الآن لفحص المقولة الشائعة في الكتابات التقليدية عن نواقص نسق التعليم في مصر أنه لا يتيح لسوق العمل خريجين يحملون القدرات والمهارات اللازمة لها, لاسيما في الشرائح الصغيرة من المشروعات الخاصة الكبيرة والأجنبية. وأزعم أن هذه المقولة غير صحيحة علي إطلاقها. ولن تصح بالكامل إلا في حال تطور الاقتصاد المصري إلي بنية اقتصادية منتجة توظف الفنون الانتاجية القائمة علي كثافة المعرفة, وتترقي فيه الانتاجية باطراد, وتنشأ من ثم سوق عمل تعكس خصائص هذا النسق الاقتصادي الراقي ودائب التطور. أما في ظل الفشل التنموي المخيم علي مصر حاليا, فأزعم أن نسق التعليم القائم يعكس بشفافية احتياجات الاقتصاد وسوق العمل الراهن, كليهما. فسوق العمل الراهنة تتيح, في الأغلب الأعم, فرص عمل رديئة لا تتطلب مهارات أو قدرات متقدمة, ويترتب عليها عوائد عمل, مالية وغيرها منخفضة ويجري أكثرها تحت ظروف تحط بالكرامة الإنسانية وبالمقابل, لا تطرح سوق العمل هذه فرص عمل جيدة تنطوي علي عوائد عمل مميزة إلا لقلة ضئيلة من فرص العمل المتوافرة. وليس غريبا والحال كذلك أن انقسم نسق التعليم إلي شطرين منفصلين, الشطر الأكبر منهما لأبناء المستضعفين وهو قليل التكلفة نسبيا, فلم يعد في مصر تعليم مجاني علي الإطلاق, ويعتمد في الأساس اللغة القومية ويكسب معارف ومهارات محدودة ويؤدي إن ما سمح الحظ بفرصة عمل إلي عوائد عمل متدنية. والشطر الأصغر من نسق التعليم المخصص لأبناء المتنفذين مكلف كثيرا, ومربح بفجور لملاكه من أصحاب رأس المال الباحث عن أقصي ربح مضمون وبسرعة, ويجري أساسا بلغة أجنبية تنشئ صلة عضوية بين الدارسين وثقافة اللغة المستعملة. وهذا الشطر يكسب, في المتوسط, مهارات أفضل, في ظل التخلف المعرفي القائم, والأهم أنه يرتب لخريجيه عوائد عمل متميزة في الشريحة الصغيرة من المشروعات السابق الإشارة اليها. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى