تناولنا في المقال السابق أن النجاح في تطهير البلاد من خطايا الفساد قبل الثورة سيكون أحد الأسئلة الصعبة التي يواجهها مجلس الشعب الجديد. امتحان البناء لنيل غايات الثورة.. والقصد هنا هو العمل علي إقامة البني القانونية والمؤسسية الكفيلة بنيل غايات ثورة الفل في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر. ويأتي علي رأس مهام الإصلاح المطلوب تأسيس الحكم الديمقراطي الصالح وما يتطلبه من بنية قانونية في قمتها الدستور والقوانين المكملة له لتنظيم الحكم الديمقراطي الصالح. والمرجو أن يجري وضع الدستور, تاج القوانين, بأوسع توافق شعبي ممكن حتي يتوافر للدستور الجديد شرط القبول الشعبي والالتزام المجتمعي. وعلي الفائزين أن يعلموا أن الانتقاص من الوفاء بالحقوق, للإنسان أو المواطن, يدل علي افتقار المجتمع للعدل, خاصة إن كان الوفاء بالحقوق يتفاوت حسب معايير الجنس والمعتقد والموقع الاجتماعي, حيث عادة ما يعاني المستضعفون درجة أعلي من الحرمان من الحقوق. ولهذا فمن الضروري أن ينص الدستور الجديد علي ضمان تمتع الإنسان بجميع الحقوق المقررة في منظومة حقوق الإنسان, لمجرد كونه إنسانا. وهي حقوق غير قابلة للتجزئة ومستحقة لجميع البشر دون أي تمييز( وتضم حقوقا اجتماعية واقتصادية وثقافية, إضافة إلي الحقوق المدنية والسياسية). ويأتي علي رأس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: التمتع بالصحة, بالمعني الإيجابي الشامل( أي حالة من تمام العافية جسدا ونفسا وتتضمن الحق في تغذية سليمة والحق في الرعاية الصحية الجيدة وفي التمتع ببيئة صحية), والحق في اكتساب المعرفة طوال الحياة( من خلال التعليم والتدريب ووسائل الإعلام الحر, والحق في الحصول علي المعلومات), فقد أصبحت المعرفة معيار القيمة في العصر الحالي وباتت قيمة الفرد فيما يمتلك من معرفة, وقيمة المجتمع فيما ينتج من معرفة, وفي فرص العمل الجيد( المحقق للذات والمدر لكسب يكفي للوفاء بالاحتياجات علي مستوي معيشي كريم), وفي السكن الآدمي المناسب الذي يضمن الصحة والكرامة; وفي الضمان الاجتماعي الذي يكفل العيش الكريم في حالات العجز والشيخوخة المانعة من العمل. كما يتعين كذلك أن ينص الدستور علي تمتع المواطن بجميع الحقوق المدنية والسياسية المقررة في منظومة حقوق الإنسان, لمجرد كونه مواطنا, وهي الأخري غير قابلة للتجزئة ومستحقة لجميع المواطنين دون أي تمييز أي بغض النظر عن الجنس أو اللون أو المعتقد أو الموقع الاجتماعي. وبديهي أن للمواطنين جميعا التمتع بحقوق الإنسان كافة, لمجرد كونهم بشرا. ويأتي علي رأس حقوق المواطنة التمتع بالحريات المفاتيح الثلاثة: الرأي والتعبير والتنظيم( التجمع السلمي وإنشاء المنظمات في المجتمعين المدني والسياسي) وحقوق المشاركة السياسية( الترشح والانتخاب) في انتخابات حرة نزيهة. وقيمة منظومة الحقوق المدنية والسياسية هذه هي ضمان التداول السلمي للسلطة, ومن ثم إطراد الحكم الديمقراطي الصالح. ولعل القارئ يتحقق من أن ضمان هذه الحقوق دون أي تمييز يحقق غايات الثورة كاملة تقريبا. ويسهم في العمل علي ضمان هذه الحقوق تأسيس نسق وطني النزاهة للوقاية من الفساد قبل وقوعه, ومن ثم تفادي وجوب الكشف عنه والعقاب عليه إن وقع, وهي مهمة صعبة لكن لم تكن مستحيلة كما تدل الخبرة منذ قيام الثورة, ويقوم هذا النسق علي الشفافية والإفصاح, وعلي المساءلة الجادة من قبل القضاء النزيه والمستقل, ومجلس الشعب المنتخب, علي كل أعمال الدولة وكل من يتصدي للمسئولية العامة. وفي ظل النظام الساقط تسبب تحالف الاستبداد والرأسمالية البربرية, المنفلتة والاحتكارية, في دوام التخلف الإنتاجي وتدني الإنتاجية, ناهيك عن استشراء البطالة والفقر والحرمان من الحريات الأساسية, كما أتاح هذا التحالف مرتعا للفساد الفاجر ولإهدار المال العام, مثل هذا التحالف الآثم لابد أن يحابي الأغنياء والأقوياء ويعاقب الفقراء والضعفاء. وتكون النتيجة اشتداد حدة الاستقطاب المجتمعي بين قلة قليلة تحظي بالنصيب الأكبر من السلطة والثروة, وغالبية ضخمة مهمشة ومفقرة. وقد أسهم سوء حكم السلطة الانتقالية بعد قيام الثورة في تفاقم هذه السوءات. ولذلك فلن تتحقق غايات الثورة ما استمر الاقتصاد السياسي لنظام الحكم الساقط. ومن أسف أن ما توافر من برامج وتصريحات قيادات الأحزاب الإسلامية لم يقطع مع نمط التنظيم الاقتصادي للنظام الساقط, بل أبدي بعضهم إعجابا به, لمجرد تمجيده الملكية الخاصة, مما يدل علي أن نمط الاقتصاد المقبل سيبقي استمرارا لنسق الرأسمالية الاحتكارية المنفلتة, ربما مع تغيير بعض الواجهات, كأن يصبح كبار المحتكرين من أصحاب اللحي الكثة بدلا من خريجي الجامعات الأمريكية, وتتكرر, من ثم جرائم النظام الساقط في نشر البطالة والفقر والتفاوت الاجتماعي الحاد, أو تتفاقم. وعلي النقيض, فإن نمط التنمية الذي يقضي علي الفشل التنموي الحاد الذي خلفه نظام الحكم التسلطي, من خلال تحالف الاستبداد مع الرأسمالية البربرية, وتبعاته, وأحد مقوماته هو الحكم الديمقراطي الصالح الحامي للحرية, هو التنمية التي تضمن العزة والمنعة للبلد وتصون الكرامة الإنسانية لأهله جميعا. لذلك من الضروري أن يؤسس الدستور المقبل لتنمية تقيم بنية إنتاجية قوية وتضمن زيادة الإنتاجية باطراد مما يفضي إلي قوة الوطن. وعلي مستوي المواطنين, لابد أن يضمن البناء القانوني والمؤسسي الجديد متطلبات تنمية إنسانية تقضي علي أدوات الفشل التنموي الراهن من بطالة وفقر وانتفاء العدالة في توزيع الدخل والثروة, ومن مهانة الإنسان التي تتبدي في أطفال ومواليد الشوارع, وفي كبار سن ومعاقين يتسولون لسد الرمق في ظروف تحط بالكرامة الإنسانية, باختصار التأسيس لتنمية تضمن حق جميع البشر في العيش الكريم والكرامة الإنسانية. ولن تقوم هذه التنمية بداية إلا إذا أصبح الاقتصاد, كما الحكم, خاضعا لمحاسبة فعالة من عموم الناس علي مدي وفائه بحاجاتهم إلي العزة والكرامة, ولن يحدث ذلك أبدا إلا في نظام حكم ديمقراطي صالح تكون المساءلة الفعالة للحكام والمسئولين أحد أهم مكوناته. وهكذا لن تقوم مثل هذه التنمية الإنسانية إلا بالقضاء علي تحالف الاستبداد والرأسمالية الاحتكارية المنفلتة, سبب الفشل التنموي الراهن. ولذلك فبالإضافة إلي قيام حكم ديمقراطي صالح يتعين ترشيد التنظيم الاقتصادي للمجتمع بعيدا عن نمط الرأسمالية الاحتكارية المنفلتة لضمان الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية كليهما. جماع القول أن مثل هذه التنمية الإنسانية لن تتحقق إلا بإحلال التحالف الخير بين الحكم الديمقراطي الصالح والتنظيم الاقتصادي, الكفء والعادل, محل التحالف الخبيث بين الاستبداد والرأسمالية البربرية والاحتكارية المنفلتة, المؤسس للتخلف والظلم. باختصار, يتطلب تحقيق تلك الغايات إقامة نمط من الاقتصاد السياسي المنتج والمحقق للكفاءة الإنتاجية والعدالة الاجتماعية في الوقت نفسه, ويتعين أن ييسر الدستور والقوانين المكملة له قيام هذا النمط من التنمية. ولا مناص من أن يقوم هذا الاقتصاد السياسي علي الاعتماد علي الذات دون أن يعني ذلك الانقطاع عن باقي العالم. وأهم مظاهر الاعتماد علي الذات هو الامتناع عن الاستجداء من الخارج, من الغرب أو العرب, والتقليل من الاستدانة قدر الطاقة. فالأصل هنا هو القضاء علي جميع أشكال الفساد المهدرة للموارد والطاقات, وترشيد الإنفاق العام التبذيري والتفاخري المستشري, وكثير من إنفاق السلطة في مصر سفيه, خاصة في ظروف الضائقة الاقتصادية, ومن لا يرشد إنفاقه ويبذر موارده المحدودة لا يحق له طلب العون, ولا يستحقه. ولكن صياغة دستور مثالي لا يكفي. فلابد من وجود الحكومة التي تنفذ محتوي الدستور, ومن ثم تكفل نيل غايات الثورة, وفي أسرع وقت, وضمان ذلك الإنجاز بالرقابة الفعالة والمساءلة الجادة للحكومة, من قبل مجلس الشعب, وهي المهمة الأساسية الثانية بعد التشريع. ولعل هذا هو الامتحان الأهم والأقسي الذي سيخضع له الشعب المجلس التشريعي الجديد ونتمني أن يجتازه المجلس بجدارة. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى