من أجل الدوران فى ساقية التوتر الزاعق؛ أجد خيالى وهو يقدم لى كرتنا الأرضية وكأنها تدور بسرعة ترتج بها بلدان محملة بملايين من البشر وهى تصطدم مع إحباط لم يكن فى الحسبان. فمن ذا الذى كان يتخيل أن يحكم الولاياتالمتحدة رجل أنتجته اثنتان من كبرى القوى المؤثرة، الأولى شركات صناعة السلاح والثانية هى اللوبى الصهيوني، وتبقى بقية القوى الأمريكية سابحة فى المتاح لها ما تتركه شركات السلاح واللوبى الصهيوني. ولا داعى للنظر إلى محاولات القارة الاوروبية لنيل جزء من كعكة تقسيم الكرة الأرضية كمناطق استنزاف خيراتها. فالكعكة التى تتكون منها ثروات الكون تبدو فى عصرنا وكأنها ميدان افتراس شرس بين الولاياتالمتحدة من جهة وبين بقية القوى المتصارعة. صحيح أن روسيا بقيادة بوتين قد استطاعت القفز من حبال الترهل التى كانت تلتف حول عنقها بفعل سقوط الاتحاد السوفيتى فجاءت قبضة بوتين الحديدية لترسم صعودا حقيقيا لروسيا إلى الدرجة التى صارت فيها قادرة على التأثير ولى أذرع الغرب جميعها, وتأكد ذلك عبر تدخلها للحفاظ على سوريا كدولة قادرة على أن تلملم أشلاءها لتظهر كدولة شبه موحدة من جديد. وصحيح ايضا ان سوريا أتاحت للروس فرصة الوجود فى البحر المتوسط الذى يمثل ذروة أساسية للتحكم فى مفاصل القارات، آسيا وأوروبا وإفريقيا؛ طبعا جرى كل ذلك بعد خلق نوع من التوافق بين الصين كقوة بازغة شديدة التميز, وبين روسيا القادرة على أن تمثل لعديد من الدول كقوة إنقاذ سياسى واقتصادي. وكلنا نلحظ أثر تسليم بضعة صواريخ شديدة التقدم لسوريا فأوقفت مسلسل تهشيم سوريا بين القوى المتكالبة عليها, ومدت روسيا شباك الصيد السياسى لتدخل فيها دولتان كل منهما ترغب فى تأسيس إمبراطوريية، الدولة الاولى هى تركيا التى أسقطت مصر قدراتها على التغلغل باسم التأسلم فى مفاصل الشرق الأوسط، والدولة الثانية هى إيران التى تريد تصدير ثورتها العاجزة حاليا عن إطعام شعبها بحكم ما تصرفه على حزب الله وجماعة الحوثيين، ومحاولات زعزعة استقرار الخليج عبر إثارة المتاعب فى الدول التى توجد بها طائفة شيعية. وكل من تركياوإيران يبدوان الآن كوحشين يريدان افتراس الشرق الأوسط لكن يقظة عدد من الدول أوقفتهما، وفى مقدمتها مصر الثلاثين من يونيو التى تقف برغبتها فى الحفاظ على الاستقلال الوطنى وقوة الضمير المصري. هذا الضمير الذى سبق وأهدى الكون فى النصف الثانى من القرن العشرين أهمية سياسة عدم الانحياز وجدارة بناء التنمية بأيدى أبناء البلد الواحد وهى من استطاعت بناء أكبر مشروع للتنمية وهو السد العالى الذى خاضت من أجله حربا مع إمبراطوريتين متهالكتين فى ذلك الوقت هما الإمبراطورية الإنجليزية والإمبراطورية الفرنسية. ولكن بعضا من الترهل أصابنا فكانت كارثة هزيمة يونيو التى هزمناها فى ست سنوات لنحرر أرضنا بحرب أكتوبر ثم بالتفاوض من أجل السلام. وإذا كان الترهل قد أصاب الوعى المصرى بجرثومة استعمارية هى جماعات التأسلم، فقد خرج شباب غاضب من أجل استرداد الوطن من الترهل، وكانت الغالبية حسنة النية فلم تلتفت إلى أصابع التآمر وهى أصابع تم تدريبها على أيدى أجهزة مخابرات اجنبية، ووجدت لها فى الغضب الشاب فرصة هائلة لتدمير طاقات وإمكانيات مصر المحروسة، لكن الجيش المصرى الذى سبق وأهدى الوطن قيادات فى حجم أحمد عرابى ثم جمال عبد الناصر ثم السادات، هذا الجيش استطاع إيقاف رحلة تمزيق مصر. ولو تحدث كل من المشير محمد حسين طنطاوى عن موجات التآمر التى واجهها المجلس العسكرى بعد ثورة يناير لعرفنا أن ما حلم به المتأسلمون هو تمزيق بوتقة صناعة الحلم والعمل المسماة مصر. وعبر خمس سنوات هى حكم الرئيس السيسى رأينا خرائط للأمل مع مواجهة حاسمة للتخلف باسم التأسلم فى محاولاته لتقسيم مصر وإنشاء مشاريع مشبوهة فى سيناء العزيزة, وطبعا كانت قوى الاستعمار المتحفز تحاول تقسيم الجارة ليبيا وتحاول زعزعة جنوب الخريطة المصرية بصراعات لم تنجح، فضلا عن وجود الخصم الحضارى وهو إسرائيل. وعندما أرقب ما يجرى على كرتنا الأرضية أتصورها تقف فى زماننا على أطراف الأصابع. وأرقب بعيون الأمل قدرة مصر على خلق حالة توازن سياسى يبدو كالمصل الواقى من إدمان صناعة التشرذم فى الأوطان. ولنرقب مثلين كليهما حى وظاهر أمام العيون، مثل موقف مصر مما جرى ويجرى فى سوريا، والمثل الثانى هو ما جرى ويجرى على أرض ليبيا. والحلم أن تستقر أقدام بلدان المنطقة لتسير إلى مستقبل غير عفن بفيروسات الاستعمار الجديد. ولتظل مكتبة الإسكندرية هى قارب إنقاذ لسفينة السياسة فى وجداني. وأقدم كامل الاحترام لمؤسسها الإدارى إسماعيل سراج الدين الذى اختلفت مع استغراقه فى رحلة تغريب المكتبة حتى كادت تصبح صوت الخارج فى الداخل المصرى والعربي, وكان مجيء د. مصطفى الفقى لإدارتها هو تحقيق لحلم شخصى كتبته قبل صدور قرار الاختيار والتعيين وطبعا كان بالقلب نشوة الفرح لتوافق اقتراحى مع قرار إدارة هذا الوطن. وأصبح من اللازم على شخصى أن أنظر إلى ما فعله مصطفى الفقى فى رحلة تمصير المكتبة لتكون بوتقة هضم للرؤى والخروج بالثقافة المصرية والعربية والبحر متوسطية من دائرة السباحة فى أمواج الكلمات الكبيرة دون ان تقدم دراسات لمشكلات الوطن محليا وعربيا ومتوسطيا بحكم ان المكتبة منذ قرار نشأتها قبل الفى عام كان هو محاولة لردم الهوة الحضارية بين ما تحت مصر وما بجانبها من دول العالم؛ وبين خطوات التقدم اللاهث علميا وحضاريا والذى خاضته شعوب أوروبا, وهى خطوات كان للعرب فيها سبق التنبيه لما يجب ان يكون عليه الحال من تدفق العلوم من جنوب المتوسط إلى شماله. ولا أحد ينسى مشاهد الوقوف على أطراف الأصابع لكثير من أقطاب الطبقات العليا فى بلاد الغال, الاسم القديم لفرنسا, ليشاهدوا معجزة رصف الشوارع فى الاندلس التى كانت عربية، ولم ينس العرب أنفسهم رحلات الفخر بما أهدوه للحضارة الإنسانية، سواء فى الفلسفة او الجغرافيا او العلوم التطبيقية. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر