إذا انطلقت "نعم" من الباب فى واشنطن، خرجت "لا" عفويا من الشباك فى موسكو، قوتان تتصارع مصالحهما على بسط النفوذ فى بقاع الأرض، قدر لواشنطن التفوق والتوسع عقب تفكيك منظومة الاتحاد السوفيتى بنهاية عام 1989، وخيل للعم سام أنه ملك الأرض من أطرافها، وازدانت له الدنيا بما عليها، وبدأ يلعب منفردا عقب تحرير الكويت من غزوة صدام العراق وإعلان جورج بوش الأب "النظام العالمى الجديد" الذى يقوده قطب واحد، غير أن الدب الروسى لم يتأخر فى رد الفعل، ولما ذهب عنه الروع من صدمة انهيار منظومته الذى ظل عليها عاكفا 70 عاما، بدأ لملمة قوته من خلال تجميع شتات الامبراطورية الروسية بتكوين الاتحاد الروسى ورويدا رويدا دب فى شريانه نبض الحياة، لم يضيع الوقت على الفور وضع يده على مسدسه وتحسس قوته وأعلن عن نفسه مرة أخرى، وكانت أوكرانيا أولى المعارك مع "ناتو" أوروبا وأمريكا، وحتى تلك اللحظة لم يهنأ الاوكرانيون بدخول حلف الناتو بعد أن ضم بوتين القرم إلى منظومة الاتحاد الروسى وتدعم موسكو العناصر الانفصالية التى تقف حجر عثرة فى استقرار أوكرانيا . وقد استشعر الدب الروسى الحرج وهو يشاهد أمريكا وإسرائيل بدعم أوروبى يعملون بدأب فى تغيير جغرافية المنطقة العربية، وجن جنونه وهو يرى ذلك المخطط يمضى قدما فى سورياوالعراق من خلال زرع فصيل متطرف "داعش"، وساعدهم دهائهم فى اقناع العالم بتجميع تحالف دولى لمحاربته، لكن الروس وجدوا ضالتهم فى حليفهم القديم بشار الأسد الذى أفقدته المعارضة المسلحة قوته وتوازنه وكانت قاب قوسين أو أدنى من الاطاحة به رغم دعمه اللوجستى والعسكرى من إيران واستعانته بقوات من حزب الله اللبنانى وميليشيات شيعية عراقية، وقبل السقوط طلب الاستعانة بموسكو كآخر الحلول لبقائه فى السلطة، لم تتردد موسكو لحظة فى الاستجابة لطلبه وأرسلت على الفور مقاتلتها الجوية وأسطولها البحرى ومارست مهامهما فى ضرب المقاومة المسلحة بزعم ضرب داعش، واستطاع بوتين تحقيق مآربه فى التواجد أولا فى المنطقة الدافئة كحلم سوفيتى قديم، وثانيا وضع قدم فى المنطقة التى يريدون اعادة صياغتها جغرافيا ليعلن بكل بجاحة "أنا فيها لا أخيها" . لم يتوقف الطموح الروسى عند التواجد فى سوريا بل ساعدته الأجواء الملتهبة عسكريا فى المزيد، وداعبه طموح التوسع والتمدد، فقام بالتنسيق والتعاون مع إيران كقوى اقليمية، ثم أراد استفزاز القوى الاقليمية الثانية فيها، فتوغل طيرانه مرتين فحذرته تركيا وفى الثلاثة أسقطت له مقاتلة سوخوى وقتل طيار من طاقمها، فى هذه اللحظة وقف العالم على أطراف أصابعه ينتظر صدام عسكرى حتمى بين إمبراطورتين تعيشين على أمجاد ماض تولى "الامبراطورية السوفيتية والامبراطورية العثمانية" باستخدام سجال لغة التهديد والتخويف التى لم تسفر عن شيىء ملموس.. فعمدت الامبراطوريتان إلى سياسة الحصار، فدخلت تركيا مع التحالف العسكرى الإسلامى الذى أعلنت عنه السعودية مؤخرا، وفى المفابل صار المتنافسان صديقان، فوزير خارجية أمريكا جون كيرى يذهب لموسكو ليبحث معها حل أزمة سوريا هكذا يعلنان، بل وزارتى دفاع البلدين ينسقان جهودهما فى مكافحة الارهاب وتبادل المعلومات فى كيفية القضاء على تنظيم داعش، وخلال هذه الأيام تلتقى الإدارتان فى واشنطن لتنسيق الجهود وتوزيع الكعكة على الأطراف المتداخلة، ونلاحظ نشاطا محموما للدب الروسى فى المنطقة، فيرفع وزير خارجية روسيا سماعة التليفون ويتصل بنظيره العراقى ويناقش معه ضرورة خروج القوات التركية من الأراضى العراقية ولا أعرف من أعطاه هذا الحق، وكيف قبل العراق هذا التدخل، على إثرها اشتكى العراقتركيا فى مجلس الأمن مطالبا سحب قواتها من أراضيه التى تواجدت أساسا بتفاهم عراقى تركى لتدريب قوات البشمركة .. هذا الانجاز شجع بوتين عرض خدمات جيشه على العراق لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية فى العمق العراقى . فى هذا السجال العسكرى الذى تشهده المنطقة، أهانت تركيا كبرياء روسيا وخدشت هيبتها، فهل يقف رد الفعل عند هذا الحد الرخو الذى لا يثمن من جوع ولم يقنع العالم بأن الدب الروسى له أنياب أو عضلات؟ وبفعل الضغط الداخلى عمدت روسيا ألى تعددت أساليبها ولم تقف عند حدود التهديد والحصار وزيادة جرعة طلعات المقاتلات الروسية على الحدود السورية التركية، فشملت الإجراءات الاقتصادية التى لن تضر الاقتصاد التركى وحده سواء فى إمدادات الغاز أو السياحة أو التبادل التجارى والمشروعات المشتركة بين البلدين بل سيطول تأثيرها الاقتصاد الروسى . وما زال فى جعبة الطرفان أوراق يمتلكها كل طرف لم تستخدم بعد، حيث تملك روسيا ورقتين خطيرتين يمكن استخدامهما فى إزعاج تركيا وهى الأكراد والعلويين الذين يمثلون ما بين 30 و35٪ من نسيج الشعب التركى، فى نفس الوقت تملك تركيا ورقة الأقليات فى الضغوط من خلال تشجيع المسلمين السنة داخل الاتحاد الروسى بدورهم على التمرد وإزعاج حكومة موسكو الذين يبلغ عددهم 20 مليونًا. كان كرم رجل سوريا المريض بشار الأسد مع الجيش الروسى كبيرا، إذ حقق لهم الحلم القديم بوجود قاعدة بحرية على الساحل السورى وهيأ لهم أيضا مراكز تصنت فى جبال اللاذقية واستخدام كافة المطارات، الأمر الذى عشم بوتين إحياء دور روسيا الدولي من خلال توسع الأهداف الجيوسياسية فى ظل أجواء اقليمية مساعدة للتوغل السياسى والعسكرى لدول المنطقة، ورغم هذا التواجد إلا أن بوتين ينتابه شعوريين متناقضين، شعور بالإخفاق من عدم تمكن روسيا بالنيل من تركيا لإسقاطها مقاتلة روسية، وشعور بالزهو بالتواجد الفعلى والتنسيق مع واشنطن فى الحصول على نصيبهم من تقسيم الكعكة العربية .