فى أحد الأيام الحارة من شهر يونيو عام 1853م فوجئ اليابانيون بأربع سفن حربية أمريكية تقتحم عزلة ميناء أوراجا القريب من العاصمة اليابانية إيدو بقيادة الأدميرال ماثيو بيرى (1794-1858)حاملا رسالة الرئيس الأمريكى فيلمور يطلب فيها فتح الموانئ اليابانية أمام السفن الأمريكية للتزود بالمياه والمؤن، وكان قد صدر أمر حاكم الساموراى من أسرة توكوجاوا عام 1639بإغلاق كل منافذ الأرخبيل اليابانى أمام السفن الأجنبية، ومنع التعامل معها إلا من خلال جزيرة ديجيماس الصغيرة فى أقصى الجنوب، ومنع هبوط الأجانب إلى الشواطئ اليابانية، وكذلك خروج أى يابانى منها، وقد عاشت اليابان لما يزيد على قرنين من الزمان فى هذه الحالة والتى أطلق عليها عصر العزلة لم تسمح فيه اليابان بالتعامل التجارى إلا مع ثلاث دول: امبراطورية الصين، وهولندا سيدة التجارة الأوروبية فى القرن السابع عشر قبل أن تتحول لدولة مستعمرة، ثم بعد ذلك بمائة عام مع شبه الجزيرة الكورية. لم تكن المفاجأة فقط فى اختراق نظام العزلة، بقدر ما كانت تلك الصدمة الحضارية التى هزت وعى الحكام والمسئولين عندما شاهدوا ذلك المستوى التقنى الذى كانت عليه السفن الحربية من حيث البناء والتجهيز، ليفيقوا على اتساع الفجوة بينهم وبين الدول الغربية الكبرى التى أخذت فى احتلال العالم من حولهم، إذ لم يكن قد مر على نهاية حرب الأفيون(1840-1842) سوى عشر سنوات، فقدت على إثرها الامبراطورية الصينية سيادتها على أراضيها، وما لبثت أن تحولت إلى شبه مستعمرة. لم يكن أمام اليابانيين إلا العمل فى طريقين متوازيين: مهادنة هؤلاء الأجانب وعدم الدخول فى صراع عسكرى لاقبل لهم به، حتى يحافظوا على استقلال بلادهم، وفى الوقت نفسه العمل على تطوير قدراتهم لتجاوز تلك الفجوة الحضارية كى لا يكونوا لقمة سائغة للطامعين. لم يكن الأمر سهلا، فحتى بعد أن وقعوا معاهدات تجارية مع أمريكا اضطروا معها لفتح بعض الموانئ للتجارة معها، لم يكن أمامهم أيضا إلا التوقيع على معاهدات مماثلة مجحفة مع روسيا و فرنسا و انجلترا وهولندا، والسماح بإقامة الأجانب من تلك الجنسيات فى مناطق محددة فى تلك الموانئ لينتهى بذلك عصر العزلة، وتضعف معه سيطرة حكومة توكوجاوا على أمور البلاد، إذ اهتزت مصداقيتها فى الحفاظ على سلامة أرض اليابان المقدسة من أن تدنسها قدم أجنبية، ولتعيش اليابان خمسة عشر عاما من الانقسام بين مؤيدين لسياسة الحكومة تجاه الأجانب فى الشمال والشرق، ومعارضين يلجأون إلى مهاجمة السفن الأجنبية التى تقترب من مقاطعاتهم فى الغرب والجنوب، مما أدى إلى تعرض بعض تلك المقاطعات للقصف من البوارج الحربية الانجليزية، لتصبح اليابان عرضة للغزو والاحتلال، ذلك الأمر الذى دفع الحكومة لإرسال حملة عسكرية لمعاقبة تلك المقاطعات حتى تكف عن مهاجمة السفن الأجنبية، ليتطور الأمر إلى حالة تهدد بصراع مسلح، لولا أن تغلبت النزعة البراجماتية على تأجج العاطفة الوطنية. إذ استطاع شباب الساموراى التغلب على مشاعر العداء للأجانب، عندما شعروا بالفجوة الحضارية أثناء المواجهة العسكرية معهم، وبدأوا فى التقرب منهم ليقفوا على أسرار التقدم التقنى لديهم، بل شارك بعضهم فى تلك البعثات التى أخذت الحكومة فى إرسالها إلى الغرب لدراسة أحواله للوقوف على مدى الإفادة منها لتجنب خطر الوقوع فريسة له. وتصل بنا قمة تلك البراجماتية الوطنية، حين يتنازل الشوجون عن الحكم الذى ظلت تتوارثه أسرته لحوالى 268عاما، ليجنب بلاده خطر الحرب الأهلية، رغم معارضة الكثير من حكام المقاطعات الذين يدينون له بالولاء، وحتى يحمى وطنه من الوقوع محتلا تحت براثن المتربصين الغربيين، ويسلم قلعة إيدو إلى تلك القوات التى أتت إليها بامبراطور حديث السن، لينهى بذلك مرحلة من تقاليد وأعراف ونظم قديمة تحول دون انطلاق بلاده نحو العصر الحديث، لتنشأ لدينا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر دولة اليابان الفريدة فى حداثتها، وتبدأ فى عام 1868م عصرها الجديد المسمى بعصر ميجى. لمزيد من مقالات د. عصام رياض حمزة