في لقاء دعا إليه السيد محمد أبو كلل مسئول العلاقات الخارجية في تيار الحكمة العراقي، وحضره السيد الحبيب الصدر سفير دولة العراق بالقاهرة والدكتورة فادية كيوان مديرة منظمة المرأة العربية، وعدد محدود من المثقفين من مصر وليبيا والعراق، طَرَحتُ علي الحضور السؤال التالي: طالما لا يوجد في دستور العراق نص يوزع رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان علي كل من الأكراد والسنة والشيعة علي التوالي، لماذا إذن يتصرف الأكراد وكأن منصب رئيس الجمهورية حق مكتسب لهم بشكل عام ويعتبر الحزبان الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أن هذا المنصب محصور بين مرشحيهما علي نحو خاص؟. كان دافع السؤال هو الأمل في تحرر العراق من أسر المحاصصة الطائفية التي بنيت عليها العملية السياسية منذ عام 2003، فهذه المحاصصة تُقّوي الانتماء للجماعات الأولية سواء الطائفية أو العرقية علي حساب الانتماء الوطني لأن الترشيحات تتم باسم تلك الجماعات والتزاما بالحصة المقررة لها، ثم إن هذه المحاصصة تخل بمبدأ المساواة بين المواطنين لأنها تحدد لأبناء كل طائفة المناصب التي يتنافسون عليها وتحجب عنهم سواها. وكنت أري أن فرصة العراق في كسر المحاصصة الطائفية أكبر من فرصة لبنان، فمع أن اتفاق الطائف في عام 1989 نص علي إلغاء الطائفية السياسية في لبنان وفق خطة مرحلية إلا أن الميثاق الوطني الذي وزع الرئاسات الثلاث قبل أكثر من سبعين عاما مازال هو الذي يحكم. في التفاعل مع هذا السؤال ورد أن هذه المحاصصة حَمَت العراق في فترة ما بعد سقوط صدام حسين لأنه لو تم إعمال منطق التغلب حينها لاستأثر الشيعة بالسيطرة علي مفاصل الدولة ونحّوا جانبا كل المكونات العراقية الأخري، أما وقد جري الأخذ بالمحاصصة فإن هذا ضمن إشراك تلك المكونات بأشكال مختلفة في العملية السياسية، هذه واحدة. والثانية أنه وإن كان لا يوجد نص دستوري يوزع المناصب بين الشيعة والسنة والأكراد، إلا أن تواتر العمل بالمحاصصة الطائفية قد خلق نوعا من العُرف وللعرف قوته. والثالثة وهي الأهم، أن هناك تطورا إيجابيا ينبغي الالتفات إليه يتمثل في تراجع ظاهرة التخندق الطائفي، ومن مؤشرات ذلك التطور ما شهدناه في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة من تفكك في كل الكتل الطائفية، حدث هذا علي مستوي السنة والشيعة والأكراد، وكان لافتا التنافس الكردي الشديد علي رئاسة الجمهورية بما يتجاوز الحزبين الكبيرين إذ بلغ عدد المتنافسين 25 مرشحا، وقبل ذلك كان قد تفكك التحالف الوطني الشيعي الذي تشكل ليكون ممثلا لهذه الطائفة في الاستحقاقات الانتخابية، بل إن أحد أبرز مكونات هذا التحالف وهو تيار مقتدي الصدر أقدم علي التنسيق مع الحزب الشيوعي وخاض الاثنان معا انتخابات 2018 بقائمة واحدة، والقصد أنه لم تعد هناك جهة واحدة تدعي لنفسها احتكار الحديث باسم الشيعة أو السنة أو الأكراد. ومن المؤشرات الأخري التي تم ذكرها للتدليل علي التطور الذي يشهده العراق خروج رئاسة الحكومة ولأول مرة من يد حزب الدعوة، وهذا بدوره يعمل علي تكسير التابوهات الجامدة التي كان يصعب تصور المساس بها من قبل، ومنها التابو الخاص بحصر رئاسة الحكومة في حزب الدعوة لأسباب تاريخية ترتبط بدوره في المعارضة. مؤشر آخر يتمثل في تغير صورة المسئولين السياسيين، فلأول مرة يتجول رئيس الجمهورية وحرمه في شارع المتنبي ويتفاعلان مباشرة مع المواطنين، ولأول مرة ينقل رئيس الوزراء مكتبه إلي خارج المنطقة الخضراء، والمثلان المذكوران يعنيان أن المسئولين ما عادوا يسكنون لا الأبراج العاجية ولا المناطق المحمية. علي المستوي الشخصي إتفق مع الرأي القائل بأن العراق يتغير، وقد كتبت مقالا بهذا العنوان علي هذه الصفحة قبل شهور وإن ركزت في التغيير علي اتجاه العراق لتحقيق التوازن في علاقاته الخارجية، لكن ما لست متأكدة منه هو أننا إذا سمحنا لعُرف المحاصصة الطائفية أن يستمر لعدة سنوات مقبلة سنكون قادرين علي تغيير هذا العُرف متي أردنا ذلك، فكلما طال الزمن اكتسب العُرف مزيدا من الشرعية وأصبح من الصعب العدول عنه لأنه سيُفسر حينذاك بأنه خصم من المكاسب المتوارثة لهذه الطائفة أو تلك. كذلك فإنني لست واثقة من أن تكسير وحدة كل طائفة معناه تقوية الشعور بالانتماء للوطن، فهذا يحدث فقط حين يكون الاختلاف بين أبناء الطائفة الواحدة قائم علي أساس تنوع البرامج والسياسات وليس علي أساس تصادم المصالح الشخصية أو اختلاف الارتباطات الخارجية ، وهذا تلزمه درجة عالية من الوعي وتنشئة سياسية علي احترام قيمة المواطنة. إننا نحلم بمجتمعات يتقدم فيها المرشحون لكل المناصب بمسوغات كفاءاتهم العلمية والعملية لا بشهادات ميلادهم التي يُدَوّن فيها انتماؤهم الديني (وربما الطائفي) والعرقي، مجتمعات لا تعرف التمييز ولا تصادر حلم أي مواطن في أن يصل إلي رأس الهرم السياسي، مجتمعات يترسخ فيها معني أن السلطة مسئولية وأن غايتها رفعة الوطن ، نحلم وننتظر أن يصبح الحلم حقيقة ولا نفقد الأمل أبدا. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد