خطيئة أخري ارتكبتها بعض وسائل الإعلام المصرية, من خلال الربط غير الصحيح وغير الدقيق ما بين وفاة رئيس الوزراء مليس زيناوي وإمكانية تجاوز عقبات التعاون المائي بين مصر ودول حوض النيل, هذا الربط الذي طرحته بعض التقارير الصحفية والمواقع الالكترونية يشير إلي نتيجة رئيسية مفادها استمرار السير في الاتجاه الخاطيء تجاه واحدة من أهم القضايا التي تمس الأمن القومي. علي الرغم من وجود الكثير من المعالجات والدراسات والتقارير التي تتناول وترصد الأحداث والتطورات المرتبطة بملف التعاون المائي, إلا أن مثل هذه المعالجات السلبية تكون أكثر تأثيرا في اللحظات الحرجة وهي كثيرا الآن. كما أن مثل هذه المعالجات السلبية, ومحاولة ربط المستقبل برحيل رئيس الوزراء زيناوي, حتي من قبيل التساؤل هو خطأ كبير, لأن هذا التساؤل يعني محاولة تشخيص ملف التفاوض أو ملف التعاون واختزاله في شخص رغم أهميته ودوره في إدارة الملف, فضلا عن أنه يتجاهل سواء عن معرفة أو عدم معرفة دور القوي السياسية والمجتمعية داخل إثيوبيا وفي العديد من دول حوض النيل وموقفها الرافض للحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر في مياه النيل. فقد نجح الإعلام وبعض القوي السياسية في العديد من دول الحوض في تشكيل رأي عام داخلي يري ان مصر تمثل عقبة وقيدا علي مستقبل التنمية في دولهم. لذا تبرز أهمية الوعي بدور الإعلام في عالم الفضائيات المفتوحة وتطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا, والوعي بمسئولية الكلمة التي تقال أو تكتب وإمكانية استخدامها كأداة ضغط يتم توظيفها سياسيا, وهو ما حدث بالفعل. فمن ضمن المأخذ التي يتوقف عندها العديد من المسئولين الافارقة وفي مقدمتهم بعض قادة دول حوض النيل هو الإعلام المصري وما يطرحه في تناوله, من تعال ووصايا وعدم معرفة بالواقع. بعيدا عن الدخول في الكثير من التفاصيل حول مسئولية التقصير التي لا يتحملها الجانب المصري فقط, وحدود مسئولية الأطراف الإفريقية ودرجة استعدادهم للاستجابة للجهود المصرية الهادفة لتطوير العلاقات البينية, فإنه يمكن رصد عدد من الملامح الرئيسية التي تعكسها النظرة السريعة للعديد من المعالجات الإعلامية الممثلة في التغطيات الصحفية والتحقيقات واستطلاع بعض الآراء, حيث نجد ان غياب المعلومات والانطباعية والادراك المسبق وعدم القدرة علي متابعة الاحداث وتطوراتها قد انعكست علي شكل المادة التي حوتها العديد من التقارير والتغطيات الاعلامية, كما ان قصور الهدف علي مخاطبة الرأي العام المصري ساعد علي استمرار مثل هذه المعالجات, وهنا يمكن الإشارة الي بعض المعالجات السلبية, مثل التركيز الدائم علي المخاوف المصرية, وعدم التركيز علي المنهج التعاوني, و الوصاية وتحديد الأطراف والدول التي يمكن أن تتعاون معها دول المنابع والتي لا تتعاون معها( الولاياتالمتحدة واسرائيل), وضعف الإشارة للمصالح والرؤي الخاصة بدول المنابع. هذا التناول الاعلامي السلبي, أفرز عددا من الانطباعات الخاطئة لدي قطاع من الرأي العام المصري, وذلك بمحاولة اختزال بعض مكونات صورة العلاقات المصرية مع دول الحوض في ملف المياه, واختزال المعالجات الخاصة بتعثر المفاوضات ومسار التفاوض في الموقف الاثيوبي فقط( رغم محوريته) دون باقي دول المنابع, واختزال الملف في المرحلة الراهنة في بناء سد النهضة دون التطرق أن شروع إثيوبيا في بناء السد يرتبط برؤية وإدراك القادة الاثيوبيين لدور إثيوبيا المستقبلي. الحقيقة أن هذه الاختزالات تعبر عن قراءة خاصة لبعض النتائج أو مخرجات المرحلة الراهنة لملف التعاون المائي, والتي تتجاهل عمق الكثير من التطورات التي تفرض إيقاعها علي مسار العلاقات المصرية مع دول الحوض, فالتشابك الكبير بين العديد من القضايا الصراعية والتنافسية حول قضايا التنمية والأمن والاستقرار تفرض تسليط الضوء علي المسارات المتقاطعة مع ملف المياه, فالمطلب منذ عام2007 برفع ملف التفاوض لمستوي الرؤساء يوضح أهمية توافر ارادة جماعية لادارة ملف التعاون, واهمية البعد السياسي وما يشهده الملف من تسييس, وتراجع قدرة الفنيين علي انجاز الاتفاق, كما أن توقيع اتفاق عنتيبي من جانب ست دول من دول منابع النيل وتجاهل الرؤية المصرية والسودانية يوضح محاولات فرض واقع جديد علي مصر وتبني معادلات جديدة للتنمية لاتشكل مصر جزءا منها, كذلك شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة بدون موافقة مصر تعبر عن التطورات والتغيرات العميقة التي أخذت سبيلها الي الواقع العملي. إذا اضفنا دخول المؤسسات الدولية كطرف دافع لرسم السياسات المائية المدعمة بالبرامج الفنية والاقتصادية, وتنافس العديد من الدول والقوي الدولية علي استغلال الموارد الطبيعية, وفي مقدمتها الاستفادة من الكميات الطائلة من المياه التي تسقط علي حوض النيل(1660 مليار م3) واستغلالها في زراعة المحاصيل الزراعية لاسيما تلك المولدة للطاقة الحيوية, سيتضح لنا بعد جديد لدوافع العديد من القوي الدولية نحو ترسيخ نفوذها السياسي والاستراتيجي في تلك المنطقة, من خلال دعم طموح العديد من دول منابع الحوض اقليميا ودوليا. بالتالي المسألة أعمق وأكثر خطورة من الخلاف حول بناء سد, وحتي الضغط علي مصر للانضمام لاتفاق يهدد مصالحها ومكاسبها في مياه النيل, فهناك رؤي وأطراف من دول الحوض وخارجه تسعي لإعادة رسم خريطة التفاعلات والمصالح في منطقة حوض النيل بعيدا عن الدور والمصالح المصرية. هذه النتائج, تشكل بعض مكونات الصورة التي تحكم ملف التعاون المائي بين مصر ودول حوض النيل, وبالتالي فالصورة أعقد من أن يتم اختزالها إعلاميا في رحيل قائد او زعيم أو يتم تكثيفه بشكل يثير الخوف والتعبئة السلبية, ومن ثم تبقي هناك ضرورة للارتقاء بالمكون الاعلامي لضمان زيادة فاعلية التحرك المصري في منطقة الحوض, وان تكون المتابعة الإعلامية الدقيقة لواقع تلك المنطقة بالقدر الذي يسمح بقراءة التوجهات والتطورات وتوفر مضمونا قويا للرسالة الإعلامية, وأن تتجسد مسئولية الاعلام المصري في توفير أداة للتواصل الفعال مع شعوب القارة الإفريقية بشكل عام, ومنطقة الحوض بشكل خاص.