فى لقائه التاسع مع الرئيس فلاديمير بوتين، يواصل الرئيس عبد الفتاح السيسى خطواته على درب «الشراكة الإستراتيجية» التى سبق وحدد الرئيسان ملامحها على مدار ما سبق وأجرياه من مباحثات ومشاورات خلال السنوات القليلة الماضية. وتأتى هذه الزيارة التى تترامى أبعادها الجغرافية من موسكو فى شمال روسيا المترامية الأطراف، وحتى سوتشى على ضفاف البحر الأسود فى جنوبها، لتؤكد مجددا «رحابة» التوجهات، وتنوع ما يطرحانه من سبل ووسائل لتجسيدها ووضعها حيز التنفيذ. وثمة ما يشير إلى أنها، وإن بدت فى بعض جوانبها «تقليدية» الشكل، إلا أنها وفى جوهرها تقول بما هو أبعد، من منظورين رئيسيين، يتمثل أولهما فيما سوف يوقعه الرئيسان السيسى وبوتين من اتفاق حول «الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي» على أعلى المستويات مع مصر، حسبما أشار الموقع الرسمى للمعلومات القانونية للكرملين. أما المنظور الثانى فيتعلق بما سبق وطرحته القاهرة من مقترحات حول انضمامها إلى مجموعة بلدان التكامل الأوروآسيوي، فضلا - وبطبيعة الحال - عن «مفردات» جدول الأعمال التى تشمل مختلف جوانب العلاقات الثنائية فى كل المجالات، ولا سيما النووية وما يتعلق بإنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى منطقة قناة السويس، وكذلك التعاون بين البلدين فى الساحتين الإقليمية والدولية. وكان ميخائيل بوجدانوف، المبعوث الشخصى للرئيس الروسى إلى الشرق الأوسط نائب وزير الخارجية الروسية الذى كلفه الرئيس بوتين باستقبال الرئيس السيسى فى مطار موسكو، أكد أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين تنص على تبادل الزيارات على أساس دورى من أجل إضفاء طابع الديمومة على الحوار بين قيادات البلدين على مختلف المستويات. وأشار إلى أنها تقضى أيضا بضرورة مواصلة المشاورات على أساس «مؤسسي» حول مختلف القضايا الدولية والأمن القومي، بما فى ذلك ما يتعلق بالتوصل إلى إقرار سلام شامل عادل فى الشرق الأوسط. وفى هذا الإطار، قال بوجدانوف إن الجانبين متفقان حول تنسيق الجهود وتعزيز نشاط لجنة مكافحة الإرهاب الدولي، من منظور ما طرحه الرئيس بوتين حول أهمية تشكيل جبهة متعددة الأطراف لمواجهة التنظيمات الإرهابية فى المنطقة، وما أكده حول «اهتمام روسيا بتعزيز التعاون فى هذا المجال مع مصر الصديقة سواء كان فى إطار علاقاتنا الثنائية أو فى منظمات دولية وخاصة لأن دولتينا قد تعرضتا مرارا لهجمات إرهابية». ولعل ذلك ما يمكن أن ينطبق على الأوضاع الراهنة فى ليبيا والمناطق المجاورة. وأكد المبعوث الشخصى للرئيس بوتين أن البلدين مصر وروسيا «يرتبطان بعلاقة ثقة متميزة تدعمها شراكة استراتيجية وحوارات سياسية عميقة»، فيما أشار إلى أن موسكو تقدر عاليا دور مصر فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجهودها المثمرة فى طرح الحلول السياسية للنزاعات القائمة فى المنطقة، إلى جانب التنسيق المتبادل بين موسكووالقاهرة فى المنظمات الدولية والأمم المتحدة». وأكد المسئول الروسى الكبير أن «آفاقا واعدة تنتظر علاقات البلدين فى مختلف المجالات استنادا إلى تقاليد الصداقة القديمة بين الشعبين والبلدين». وعن التعاون العسكري، تقول المصادر الروسية إن الجانبين يواصلان تنفيذ ما سبق واتفقا حوله فى مجال التسليح والتدريبات المشتركة على ضوء ما تطرق إليه وزيرا دفاع البلدين فى مباحثاتهما الثنائية فى القاهرةوموسكو خلال السنوات القليلة الماضية. ونشير فى هذا الصدد إلى ما أوجزه وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو فى تصريحاته حول أن التعاون العسكرى «يجب أن يتسم بطابع عملى ويسهم فى زيادة القدرة القتالية للقوات المسلحة فى البلدين». وكان شويجو قد تطرق أيضا إلى «تبادل الوفود العسكرية وإجراء المناورات المشتركة وتدريب العسكريين المصريين فى المؤسسات التعليمية العليا التابعة لوزارة الدفاع الروسية، إلى جانب تعزيز التعاون بين القوات البحرية والجوية فى البلدين»، فضلا عن التعاون فى الصناعات المشتركة لبعض عناصر التسليح العسكرى. أما عن التعاون المصرى الأورو آسيوى فقد استهل الرئيس السيسى يومه الأول فى موسكو بمناقشة أبعاده مع تيجران سركسيان السكرتير التنفيذى للجنة الاقتصادية لمجموعة بلدان الاتحاد الآوراسي، على ضوء ما توصل إليه الجانبان من اتفاق حول انضمام مصر إلى هذه المجموعة التى تضم كلا من روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وأرمينيا، والموافقة على مناقشة توقيع اتفاق التجارة الحرة بين الجانبين. ومن المتوقع أن يعود الرئيسان بوتين والسيسى فى لقائهما فى سوتشى إلى مناقشة ما يتعلق بمسألة انضمام مصر إلى مجموعة بلدان التكامل الأورو آسيوى من منظور ما تحقق من نتائج على المستويات الأدني. وفى هذا الصدد، نتوقف عند الخطة التى طرحها الرئيس بوتين فى صدارة أولويات حكومته فى الفترة القريبة المقبلة، وكانت «الأهرام» قد سبق ونشرت بعضا من جوانب هذه الخطة التى تتخلى روسيا بموجبها عن الدولار اعتمادا على تنويع استخدام العملات الأجنبية والوطنية فى التجارة الخارجية والتعاملات المالية مع البلدان الخارجية. وأعلن أنطون سيلوانوف نائب رئيس الحكومة ووزير المالية، أن هذه الخطة تأتى فى سياق تحول روسيا نحو تعزيز التحول إلى استخدام العملات الوطنية مع شركاء روسيا فى الخارج، وفى إطار ما أعلنه الرئيس بوتين من أن «سياسة واشنطن الخارجية تقوض الثقة فى الدولار كأداة مالية عالمية وعملة احتياطيات رئيسية». وأشارت وكالة «نوفوستي» الروسية إلى «تصاعد الدعوة نحو الابتعاد عن العملة الأمريكية فى التجارة الخارجية والحد من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، نظرا لسياسة العقوبات التى تتبعها واشنطن وحرب الرسوم الجمركية التى تنتهجها مع دول العالم». ومن اللافت أيضا أن الرئيس بوتين سبق وأجاب على سؤال «الأهرام» حول مدى احتمالات تطبيق هذه الفكرة فى التعاملات المالية مع مصر بقوله «بالفعل هذا الموضوع الآن فى دائرة الضوء وقبل كل شيء بسبب قرب الموسم السياحى فى مصر، ومن الواضح أن إدخال الحسابات بالعملتين المحليتين ستسهم فى صنع الشروط الأكثر مواءمة للملايين من المواطنين الروس الذين يستريحون سنويا فى بلادكم». وأضاف بوتين أن «هذه الخطوة ستفتح آفاقا جديدة أمام التعامل الاستثمارى والتجارى بين بلدينا وتخفف اعتمادها على التغيرات فى الأسواق العالمية، وعليه، فمن المنطقى أنّ رجال الأعمال بالبلدين شرعوا فى الحديث حول الأفضلية للتحول إلى العملتين المحليتين فى الحسابات الثنائية». ومضى الرئيس الروسى ليؤكد أن بلاده بدأت بالفعل فى استخدام العملات المحلية فى تنفيذ العمليات التجارية مع بعض البلدان من رابطة الكومنولث - بلدان الاتحاد السوفييتى السابق - وكذلك الصين، وأثبتت هذه التجربة فاعليتها، معربا عن استعداد بلاده لتطبيقها فى علاقاتها مع مصر. وعلى صعيد الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية، هناك من التوافق فى الرؤى والآراء تجاه الكثير من هذه الأوضاع، ما يقول بما هو أقرب إلى التطابق، وذلك ينسحب على موقف البلدين من الأزمة السورية. وكان الرئيس بوتين قد أجاب على سؤال ل«الأهرام» فى هذا الشأن أيضا بقوله «إن روسيا ومصر تقفان مواقف متقاربة من الوضع فى سوريا، وتدعم دولتانا وحدة سوريا وسيادتها، وتصرحان بصورة مطردة عن عدم وجود أى بديل آخر للتسوية السياسية والدبلوماسية، ولدينا رؤية متطابقة للخطوات الأولية باتجاه الحل للازمة السورية ومن ضمنها قبل كل شيء إطلاق الحوار السورى - السورى دون شروط مسبقة وأى تدخل من الخارج وعلى أساس مبادئ إعلان جنيف من 30 يونيو 2012». وأضاف أنه «من البديهى أن جهود روسيا وتلك التى يبذلها شركاؤنا المصريون منسجمة مع بعضها البعض فإن كل هذه الجهود تهدف إلى كسر الجمود فى التسوية السياسية للأزمة السورية وكذلك المساعدة فى إطلاق الحوار بين ممثلى الحكومة السورية وخصومهم السياسيين ليتوصل السوريون أنفسهم ودون أى ضغوط من الخارج إلى حلول وسط توافقية مقبولة للجميع». وها هى زيارة الرئيس السيسى لروسيا تأتى لتؤكد تقارب الرؤى والمواقف، بل وتطابقها حيال الكثير من قضايا العصر، فى توقيت مواكب للذكرى الخامسة والسبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وبهذه المناسبة نقول إن العلاقات فى مرحلتها الآنية، تبدو امتدادا لتقاليد راسخة تعود بتاريخها ليس فقط إلى يوم الإعلان عن قيام العلاقات الدبلوماسية بين البلدين فى أغسطس 1943 ولم تكن الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها بعد، بما يعنى أن القاهرة كانت قد حسمت أمرها وحددت خيارها وقررت الانحياز إلى جانب الحق ضد فلول الشر النازية التوجهات، بل وإلى تاريخ سابق يعود فى بعض جوانبه إلى قرون طويلة خلت، شهدت أولى بوادر التقارب بين الشعبين.