هل تعرف يا ولدى ما الذى جرى فى اليوم (6 أكتوبر) قبل 45 سنة؟ سيجيب الابن العزيز: نعم.. لقد انتصرنا - نحن المصريين - على الأعداء فى 6 أكتوبر ولذلك فإنهم يتكرمون علينا كل عام فيمنحوننا إجازة من المدرسة. عظيم.. وهل تعرف يعنى إيه انتصار؟ هنالك قد يفتح الابن عينيه على اتساعهما مندهشا، وربما فمه أيضا، باحثا عن إجابة فلا يجد الكلمات المناسبة لوصف ما جرى بالضبط.. وكيف يجيب وقد مضى على تلك اللحظة التى لم يعشها ما يربو على نصف القرن؟ إذن دعنى أقل لك ماذا جري: كان يا ما كان.. فى زمن من الأزمان.. شعب أغرقته المهانة حتى بلغت به حد الذل والإحساس بالخزى (بل والعار).. أتدرى لماذا؟ لأنه صحا من النوم ذات صباح فإذا به يرى كل أحلامه وقد انهارت أمام عينيه.. إذ ها هو الوطن الذى ظل يتغنى بأمجاده طوال سنوات قد انهزم هزيمة نكراء حتى إن جنوده عادوا حفاة عراة مكسورين منكسرين مشيا على الأقدام بعد هزيمتهم المؤلمة فى ساعات قليلة على أيدى الأعداء. إنها «المرارة» فى أوضح معانيها.. ومرارة الأوطان يا ولدى أقسى على الروح من مرارة كل امريء منا على حدة. إنها المرارة وقد تكثفت فأصبحت سحابة حزن مكتوم ممزوج بغضب يأبى أن يخرج إلى الألسنة الخائفة، ومع الغضب رغبة جامحة فى احتقار الذات والسخرية منها.. بل وذبحها ذبحا. نعم .. وقع هذا فى العام السابع والستين. مرارة الروح - يا ولدي- تجعلك مشلولا، فاقدا الثقة فى نفسك وفى كل الأشياء، لاعنا كل ما علموه لك منذ نعومة أظفارك. إنك تصحو من نومك كل يوم فإذا بصوت هازىء مستهزىء جبار يصرخ بداخلك فيزلزلك: أنت لا شيء. فقط أريدك أن تتخيل بعض نتائج المرارة عندما تتفشى المرارة بين الناس. إنهم يفقدون الأمل، ومن فقد الأمل فقد أى رغبة فى العمل أو الإنجاز.. وآنئذٍ يصبحون بين يوم وليلة كأعجاز نخل خاوية، ومجرد أشباح تهيم على أقدام لا وجود لها. إنهم يصبحون أكثر قابلية لتصديق ما يروجه عدوهم من أكاذيب بأنهم بلا قيمة.. ولا ثمن لهم، فتنتشر بينهم اللامبالاة والكسل والعدمية وازدراء كل القيم التى هى أساس تكوينهم النفسي. آى نعم.. يتحولون إلى «لا شيء».. وهكذا كنا نحن يومها. .. ثم -وفى مثل هذا اليوم الذى أخذت أنت فيه إجازة- وقع الزلزال المدوى الذى لم يتوقعه أحد.. ولا حتى الأعداء أنفسهم الذين صدقوا كذبتهم الكبرى التى روّجت بأن مصر قد انتهت. انفجر الزلزال فإذا بهؤلاء المهزومين المنكسرين ينطلقون من القمقم كالمارد الخرافى فيحطمون الأساطير ويثبتون للدنيا كلها أن هذا البلد (الذى هو مصر) عصى على الانكسار حتى لو أصابته كبوة، أو ألمت به هفوة. ولا شك أنك قرأت فى مناهجك الدراسية تفاصيل ما جرى من تحطيم أسطورة الجيش الذى لا يُهزم، وتدمير بارليف، والعبور العظيم.. وكما هزمونا هُم فى 6ساعات طرحناهم نحن أرضا أيضا فى 6ساعات.. فخرجوا ممزقين غارقين فى دمائهم.. يولولون: انجدينا يا أمريكا ! هذا يا بُنى ما جرى فلماذا نعيده على مسامعك الآن؟ حسنا.. لعدة أسباب: أولها، أن وطنك يا ولدى (مصر) ليس وطنا أى كلام، ولا هو كمالة عدد (كما يحلو للبعض من الانتهازيين المنفعجية الأشرار الترويج الآن).. وإنما هو وطن عظيم يمتلك من المخزون الحضارى ما يتيح له القفز من القمقم فى أى لحظة ليدهش كارهيه. والسبب الثاني، أن استحضار الذكرى كفيل بأن يقدم نموذجا لما يمكن تحقيقه فى قادم الأيام. آى نعم.. صدّق أو لا تصدّق.. إننا نحن المصريين قادرون على الانطلاق وإنجاز المعجزات فى أى لحظة.. ولسوف نفعل من جديد كما سبق أن فعلناها من قبل مئات المرات ..(صعود فهبوط ثم صعود من جديد).. واقرأ إن شئت التاريخ. والسبب الثالث، والذى للأمانة تحدث عنه الآلاف من قبلنا، هو أنه لا شيء فى هذه الحياة يأتى صدفة، أو خبط عشواء، أو ببركة دعاء الوالدين (مع أهمية الدعاء طبعا). لا.. بل يتحقق الإنجاز بالتخطيط السليم، وتقدير الموقف، وجمع المعلومات التى تؤسس عليها قاعدة معلومات صحيحة ودقيقة وصادقة تجعلك تفهم ما يدور من حولك. وأنت إذا قرأت ما يتحدث عنه أبطالنا البواسل الذين حققوا هذا الانتصار التاريخى ستعرف بالتأكيد كيف تحقق النصر.. وكيف عكف رجال صادقون أكفاء مستنيرون على بحث كل كبيرة وصغيرة تتعلق بالمعركة قبل الدخول فى معركة.. أليس هذا ما نصبو إلى تكراره الآن (الدراسة والتخطيط وعدم ترك الأمور للشعارات البراقة أو للصدفة)؟ والسبب الرابع، أن استعادة ذكرياتك السعيدة المجيدة من شأنها أن تبث روح الأمل والنشاط والثقة فى النفوس التى أوشكت على الاحتضار ! وأما السبب الخامس، فهو أن البعض من الباحثين يذهب إلى أن مصر ما أحوجها اليوم لاستعادة الروح نفسها التى هيمنت عليها ساعة الإعداد للحرب المجيدة، ويوضحون أن ما ينقصنا الآن هو العزيمة والإيمان بقدرتنا الذاتية الفذة؛ تلك التى تحلى بها أبطال جيشنا الباسل فى تلك الأيام المجيدة، ويشيرون إلى أن معركة البناء دائما ما تكون أشد صعوبة من معارك القتال بالميدان، ويضيفون أننا نعيش حاليا لحظة فارقة فى تاريخنا ما لم ننتهزها لنقيم صرح حضارتنا مجددا فقد تضيع الفرصة ولا تعود. ثم يصرخ هؤلاء فينا: هيا انتهزوا اللحظة.. فهل نفعل؟. لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات