نشرت الطبعة الأولى من كتابى «زمن الرواية» سنة 1999. وقد أحدثَ الكتاب فور صدورهِ آثارًا إيجابية، وحقق ذيوعًا طيبًا بين أوساط المُثقفين والمُبدعين، وذلك بالقَدْر الذى أثاره من موجات الاتفاق والاختلاف فى الوقت نفسه. وكان أهم من اختلفوا معه من تعصَّبوا للشِّعر وظلوا يرون فيه فنَّ العربيةِ الأول وديوانها الأعظم. وأما الذين تحمَّسوا له، فكانوا من الذين رأوا فى فنِّ القَصِّ بوجهٍ عام طريقًا واعدًا إلى المستقبل الذى اقترنَ بصعودِ التكنولوﭽيا المُعاصرة ودخولنا إلى عصر المعلومات والاتصالات. وبِقدرِ ما شكرتُ المُتحمِّسينَ فى الندوات واللقاءات التى تولَّدت عن نشرِ الكتاب، لم أكُن مُتَّفِقًا مع الذين هاجموه بغير حقٍ فى أحيان كثيرةٍ. وأذكرُ أن عددًا من الشعراء على وجهِ التحديد فَهِموا من «زمن الرواية» المعنى الإقصائى الذى يستبعدُ كل فنٍّ آخر غير القصةِ ليستبقِى الرواية وحدها فى المقعدِ الأول من صدارةِ المشهدِ الإبداعى. ........................ والحقُ أننى ما قصدتُ بكتابى «زمن الرواية» إلا تأكيد ما سبقَ أن شعرتُ به بوصفى ناقدًا، وتأكدتُ منه بعددٍ من الظواهرِ التى أشرتُ إليها، والتى حاولتُ رصدها. وما أعنيه بذلك أن العلاقة بين الأنواعِ الأدبيةِ هى علاقة مُتغيِّرة عبر العصور، وأن العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بل الدينية أحيانًا، تؤثِّر فى هذه العلاقة، فتؤدى إلى ارتفاع شأنِ المسرح فى الديموقراطية الأثينية فى القرن الخامس قبل الميلاد مثلًا، بينما تقترنُ الرواية بازدهار الطبقة الوسطى ابنة المدينة الصاعدة. ولا يعنى هذا التغير تَحيُّزًا لنوعٍ أدبى على غيرهِ، وإنما ملاحظة تغير العلاقة بين الأنواعِ فى علاقةِ كل منها بزمنهِ ومكانهِ فحسب. والحقُ أن تاريخَ القص العربى تاريخٌ يؤكد هذا المعنى على نحوٍ واضح. فقد شَهِد تراثنا نوعًا من الصراعِ المكتوم، والمقموع أحيانًا لأسباب عديدةٍ، بين الأنواعِ الأدبية، فظل الشعر يحتلُ المرتبة الأولى، فى البنية التراتبية (الهيراركية) للأنواع الأدبية. وظل النثر فى المرتبة الثانية على امتداد العصر الجاهلى والعصر الإسلامى إلى أن دخلنا فى القرن الثالث للهجرة مع الدولة العباسية، فأخذ هذا التراتب يهتز وبدأ النثر يحتل مكان الشعر، مع ظهور المدينة العربية، مثل بغداد ودمشق والكوفة والقاهرة وغيرها من المدن العربيةِ القديمةِ، فقد اقترنَ النثر ليس بالكتابة الفنية وحدها (أى الكتابة الديوانية) وإنما اقترن بفنِّ السرد أو القص. وكان ارتباط النثر بالكتابة الديوانية بشكل عام وارتباط هذه الكتابة الأخيرة بمنصب الوزارة أو مكانة الوزراء هو الدافع إلى صعود فن النثر، ومن ثَم مزاحمة النثر للشعر على مستوى الوظائف العُليا للدولة. وقد ظل الأمر على هذا النحو مع شيوعِ أنواع السرد الرمزية للفلاسفة والمتصوفة والمقموعين الذين رأوا أنفسهم ضد تحكم الخلفاء أو الحكام وتَعصُّبِهم لأصولهم القُرَشيَّة أو العربية إلى أن خَفَتَ تأثير الشعر، فَفَقدَ الشعر هيمنته فى التراتب الأدبى بعد أبى العلاء المَعرِّى وانهيار الدولة العربية الإسلامية مع تقدم العصر العباسى، فى الزمنِ من ناحية، ومع بدايةِ انهيار قوة الخلافة ودخول الغزو الأجنبى للدولةِ الإسلاميةِ من ناحيةٍ ثانيةٍ، وذلك ابتداء من سقوط بغداد على يدى المغول والتتار من ناحية ثالثة. الأمر الذى أدى إلى ازدهار الفنون الشعبية وتصاعدها فى التراتب الأدبى. هكذا تصدَّرت المشهد «ألف ليلة وليلة»، أو ما يسمى ب «الليالى العربية» فى الكتابات الأجنبية، كما تصدَّرت الحكايات والسِّيَر الشعبية التى رددها الشعب العربى، أو العامة من الطبقات الدنيا، وظل يرددها الرواة فى مقاهى العواصم العربية مثل القاهرة ودمشق وغيرهما. وفى مشهدٍ من المشاهد الأولى من رواية «زُقاق المَدق» لنجيب محفوظ نرى مقهى المعلم « كِرشة « الذى يقوم بطرد الراوى الشعبى الذى كان يُسلِّى الزبائن بحكايات أبى زيد الهلالى ويضع مكانه «الراديو» الجديد الذى اقترن بعالمٍ جديدٍ صاعدٍ على أنقاض العالم القديم الآفل. وبهذا المعنى يمكن أن نتحدث عن تحوُّل التراتب الأدبى ما بين الشعر والنثر بوجهٍ عام أو ما بين أدب الخاصة والعامة بوجهٍ خاص، فى الكتابة العربية، شعرًا ونثرًا. ويمكن أن نتحدث بالقَدر نفسه عن تبادلِ مكانة الأنواع الأدبية عبر العصور بشكلٍ عام أو فى عصور الأدب العربى بشكل خاص. ومن ثَم تبادلها المكانة والرتبة. فقد كانت سرديات «ألف ليلة وليلة» فى الدرجة الدنيا من التراتب الأدبى إلى أن تعدَّلت الأوضاع، وظهرت الطبقة الوسطى وتكوَّنت المدينة العربية الحديثة، فتصاعدت مع تكوينها وتطوُّرها أنواع الكتابة وانقلب التراتب الأدبى، فاستبدَلت الذائقة العربية بالشعر القص، وتحوَّل الشعر نفسه من زمن الإحياء والتقليد إلى زمن جديدٍ ابتدأ صعوده بصعود فن القص بوجه عام، وذلك ابتداء من النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حيث أصبح لوجودِ الرواية حضور ملموس فى تاريخِ الأدب العربى. ولكن ما لفتَ انتباهى فى أشكالِ الاختلاف التى أثارها كتاب «زمن الرواية»، هو النقد بلا معرفةٍ، أحيانًا، أو اتِّهامِى بالانحياز إلى «المَدينة» بوصفها عُنصرًا فاعلًا وتوليديًّا، سواء فى تأسيسِ فنِّ القصة أو الرواية فى حداثةِ عهدها، وهو ما اضطرنى إلى أن أُعيدَ النَّظر فى تاريخِ الفن الروائى كله، وعلاقة القص بالمدينة، ابتداء منذ القرنِ الثانى للهجرة، فى التراث العربى، إلى عصرنا الحديث. وقد لاحظتُ أن القص بمعناه السردى الذى أنتجَ «ألف ليلة وليلة»، مثلًا، اقترن بنشأةِ واستقرار المُدن العربيةِ القديمةِ، كالبصرة والكوفة وبغداد ودمشق، ففى هذه المدن نشأ فن القص التراثى مُلبيًا حاجات اجتماعية وأدبية، ومرتبطًا بتأسيسِ ما يُشبهُ الطبقة الوسطى من التُّجار وأصحاب الحِرَف ومَن يماثلهم مِن المواطنينَ الذين سكنوا هذه المدن بكل ما ارتبطت به من تَعدُّدِ الهويات والأجناس والأديان التى جَمعَ بينها الإسلام بِروحِهِ السَّمحة التى لم تُفرِّق بين عربيٍّ وأعجمى إلا بالتقوى. وتحوَّلت المبادئ الإسلامية القديمة إلى مبادئ إسلامية حديثة، ومن ثَم تأويلات إسلامية رحبة عن ضرورةِ عدم التفرقة بين المواطنين عندما تختلف أديانهم، اعتمادًا على مبدأ «المواطنة» الذى جعل سكان كل المدن العربية الحديثة على امتداد القرن التاسع عشر كله مواطنين لا تمييز بينهم على أساس من الدين أو الجنس فى الدولة المدنية الحديثة ابتداء من ثورة 1919. ومن هذا المنظور نشأت طبقة أو مجموعة من «القصّاصين» وهم الأجداد الأُوَّل لكُتّاب القص الذين أنشأوا هذا النوع من الفنِ فى التراث الإسلامى والذين يُطلِقُ عليهم الجاحظ وغيره من علماء الإسلام «القُصّاص» ولا شك أن هذه المجموعة كانت مُحتقرَة، موصوفة بأدنى الصفات، وذلك ضمن الثنائية التقليدية التى ارتفعت بشأن الشِّعر والشعراء فى مقابل النَّثر والناثرينَ، أو القُصّاص بوجهٍ عام. وقد سبقَ أن أشرتُ فى كتابى «غواية التراث» إلى الثنائية الضِّدية التى تصارعَ فيها «الشعر» و»النثر» فى الحضارة العربية، وهو صراعٌ أدى إلى ارتفاع شأن «الكاتب» الذى اقترن بالخلفاء الذين أنزلوه منزلة الوزراء كما حدث ابتداء من نفوذ «محمد بن عبد الملك»، المعروف بابن الزيات، وزير المعتصم بالله، إلى آخر الوزراء الكُتّاب الذين كانوا يُمثِّلون بالنسبة للخلفاء العقول المُدبِّرة أو «المستشارين» بِلُغةِ عصرنا. وقد عَرفنا من كُتبِ التراثِ، المناظرات التى حدثت بين الكتابة والشعر أو بين النثر والشعر. ومن المؤكد أن النثر – لعوامل متعددة - ظل أدنى من مرتبةِ الشِّعر رغم كل دفاع الكُتّاب الذين ربطوا قلم الكاتب وسُلطة الكتابة التى كانت وسيلة الخلفاء فى الهيمنة. وهو الأمر الذى فَرضَ نفسه على كتابات من طراز «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و»أدب الكتاب» للصولى، و»صناعة الكتاب» لابن النحاس، و»مواد البيان» لعلى بن خلف، و»حُسْن التوسل إلى صناعة التَّرسل» لشهاب الدين الحلبى، وذلك فى سياقِ الزمن المُتتابع الذى اكتملت دائرته بموسوعة القلقشندى الضخمة «صُبح الأعشى فى صناعة الإنشا» وغيرها من الكُتب التى عالجت حِرفة الكتابة وصفات الناثر الممدوح بها. لكن هذه الكتب لم تؤثِّر جذريًّا فى الهيراركية التى جعلت الشعر أعلى مرتبة من النثر، وذلك بالقَدر الذى وضع القص و»القُصّاص» فى المنزلة الأدنى، وهو الأمر الذى نراه فى كُتب التراث التى تتحدثُ عن «القُصّاص» بوجهٍ عام، وذلك بوصفهم مذمومينَ وكذّابينَ وسفلة، ولا جمهور لهم إلا العوام؛ لأن القص نفسه تلفيقٌ وكذبٌ، ويُشغلُ عمّا هو أهم من تدبر القرآن ورواية الحديث. فالقص بدعةٌ مذمومة؛ لأنه كذبٌ وتخليطٌ ومبالغة، والقصّاصون سفلة وعوام أو يستميلون العوام بما هو غريبٌ وخُرافة تتجاوز سُنن الكونِ أو قواعد العقل والمنطقِ، ويلهى عن ذكر الله. ومع ذلك ظل القص موجودًا مُقاوِمًا النظرة الجامدة المُحَقِّرة له فى التراث، مُرتبطًا بالمُهمَّشينَ فى المجتمع، ناطقًا صوتهم، مُعبِّرًا عن أفكارهم، مُقاوِمًا تَسلُّط الخلفاء ومَن فى حُكمِهم من القامعينَ، على نحوِ ما أوضحتُ فى بحثى عن «بلاغة المقموعين». (فى كتاب «دفاعًا عن التراث» الذى صدر عن الدار المصرية اللبنانية للكتاب سنة 2012). وأظنُّ أن ما ورِدُ فى كتاباتى عن «رمزية ألف ليلة وليلة، إنما هو نموذج للمقاومةِ بالقص فى تراثنا القديم. والحق أن الأمر لا يقتصر على «ألف ليلة وليلة» وحدها وإنما يمتد إلى كتابات قصصية تلتقى و»ألف ليلة وليلة» فى مقاومةِ التراتب الاجتماعى واللغوى والأدبى والدينى فى جوانبهِ القمعيةِ التى كان لا بد أن تخلُقَ نقيضًا مُقاوِمًا لها، على المستوى الشعبى تُبدعُهُ الطبقات التى كان لا بد أن تُعبِّرَ عَمّا تشعرُ به، ويُناقضُ الثقافة السائدة بالحيلةِ والأُمثولةِ والرمزِ. ولن أنسى الإشارة إلى الكتابةِ الرمزية التى اضطُرَّ الفلاسفة أن يُعَبِّروا بها عن أفكارهم، كما حدث فى الكتابة عن «حَيِّ بن يقظان» وأمثاله من القصص التى كتبها ابن سينا أو ابن طفيل أو غيرهما من المتصوفة، وذلك فى نَثرٍ تمثيلى (أليجوري) وأُمثولات تنطقُ المسكوت عنه، اجتماعيًّا ودينيًّا وسياسيًّا. وقد عَرفنا فى العصر الحديث قيمة هذا النوع من النثر الذى لا أزالُ أضعُهُ فى «بلاغة المقموعين» وألفتُ الانتباه إلى ضرورةِ المُضى فى درسِهِ وبحثِهِ. وقد لعبت «المدينة» فى العصرِ الحديثِ الدور نفسه، فكانت هى المجال الذى استعاد حضور القص بوجهٍ عام، أو الرواية بوجهٍ خاص، بوصفها تعبيرًا رمزيًّا عن أبناءِ المدينةِ من الطبقة الوسطى الذين عَرَفوا علوم الغرب وفنونه، فتأثروا بها ووَصَلوها بما لديهم من تراثٍ قصصى، وذلك على نحوِ ما أوضحتُ تفصيلًا فى كتابى «الرواية والاستنارة»، الذى صدرت طبعته الأولى عن مجلة «دبى الثقافية» سنة 2011. وفى الطبعة الجديدة والمختلفة لكتابى «زمن الرواية» جانبٌ كبيرٌ من محاولةِ تأصيلِ فنِّ الرواية من ناحية علاقتهِ بالتراث أولًا، ومن منظورِ علاقتِهِ بالأنواعِ المرتبطة به، بوصفه فنًّا مَدينيًّا. والحق أننى كلما تعمقتُ فى دراسة تراثنا بوجهٍ عام، وفى تراثنا القصصى الحديث بوجهٍ خاص، تأكد فى داخلى اليقين بأن فن الرواية، أو القص بوجه عام، هو فنٌّ لا يوجد إلا فى المدينة وبالمدينة وللمدينة بالدرجة الأولى، كما أنه فنٌّ ينشأ ويتطور ويتغير فى تطوره بالتاريخ وفى التاريخ فى الوقت نفسه. والحقُ أننى اخترتُ عنوان كتابى «زمنُ الرواية» بوصفه نوعًا من المُعارَضةِ بمعناها الخِلافى لعنوان كتاب أدونيس «زمنُ الشِّعر»، فلم أَعُد أرى - مثل أدونيس - أننا نعيش زمن الشعر، بل أصبحنا نعيش زمن الرواية أو زمن القص بوجهٍ عام. وأن هذا الزمن الذى نعيشهُ حقق النبوءة التى أطلقها روائى شاب اسمه نجيب محفوظ سنة 1945. ولم يكن من المصادفة أن هذا الشاب الذى تنبَّأ بأن القص سوف يكون «شِعر الدنيا الحديثة» هو الذى حصل للعرب جميعًا على أولى جوائز نوبل التى مُنحت لآدابهم، سنة 1988، عندما حصل هو، وليس غيره، على جائزة نوبل للآداب. وأظننى قدمتُ فى الطبعة الجديدة من كتابى «زمن الرواية» تأصيلًا مختلفًا لنشأةِ هذا الفن وتطوره فى آن. فمن الواضحِ أننى لستُ مع المدرسة التى ترى أننا استوردنا فن القص (Narration) من الغرب تمامًا، أو أن رواية «زينب» سنة 1913، هى الرواية الأولى فى الأدب العربى الحديث، فأنا من الذين يؤمنون بأن فنَّ القصِّ تأسَّسَ فى الأدب العربى نتيجة عامِلَينِ: عامل داخلى يتصل بتقاليد القص العربى وأنواعهِ السرديةِ المختلفة، ابتداء من السرد التاريخى، وليس انتهاء بالقص الرمزى الفلسفى والصوفى، فضلًا عن الملاحم أو السِّيَر الشعبية. وإذا أنكرنا وجود هذا العامل كذَّبتنا روائع قصصية معترف بها فى العالمِ كله مثل «ألف ليلة وليلة» أو ما يماثلُها فى التأثيرِ. أما العامل الثانى فهو العامل الخارجى الذى يتصل بالرواية الأوربية وتقاليدها وتحوّلاتها فى الوقت نفسه. وأظنُّ أن هذه النظرة تجمعُ بين الأصالة والمعاصرة فى صياغةٍ منهجيةٍ، لا تُنكرُ عَظَمة تراثها القصصى وفتنة العالم كله به، كما لا تنكرُ التفاعل الطويل والمستمر بين الموروث والوافد، فى التاريخ وبالتاريخ، وذلك على نحوٍ يؤدى إلى التكامل فى المنظورِ بين فنِّ القص الحديث الذى ظهرت بوادره الأولى فى منتصفِ القرن التاسع عشر من خلال عملٍ مثل: «الساقُ على الساق فيما هو الفارياق» (سنة 1855) أو فى عملٍ موازٍ مثل: «وِي! إذن لست بإفرنجى» (سنة 1859). وعبر مرور السنوات تطور هذا النوع من القص إلى أن صعد على يدى محمد حسين هيكل، صاحب رواية «زينب» (سنة 1913)، وأبناء جيلهِ مثل توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد وإبراهيم المازنى، الذين أعادوا إنتاج النموذج الغربى الأوروبى، فى سياقِ صعودِ الوعى الوطنى الذى كانت ثورة 1919 إحدى انفجاراته. ولذلك سوف نرى نوعًا من الفارقِ بين كتابةِ الرواية فى القرن التاسع عشر وكتابتها فى القرن العشرين، فكُلما اقتربنا من عصورِ التراث أو بحثنا فى إنتاج عصر الإحياء فى القرن التاسع عشر سوف نجد أنفسنا أقرب إلى التراث وطرائقِهِ السردية. وهذا واضحٌ فى الطابعِ المَقاماتى الذى يَغلبُ على عمل الشدياق أو على مبارك أو المويلحى فى «حديث عيسى بن هشام» أو مصطفى لطفى المنفلوطى. أما إذا دخلنا القرن العشرين وركَّزنا النظر على ثورة 1919 وما أحدثته من تأثيرٍ، وجدنا نوعًا من الاستقلالِ الذى يتباعدُ عن الكتابةِ التراثيةِ، ويبدو كما لو كان يَضعُ النِّتاج الغربى موضع المنافسةِ، تعبيرًا عن الذاتِ الوطنيةِ، حتى وإن بَدا مُتأثِّرًا بالكتابةِ الأوروبيةِ، فمحمد حسين هيكل – مثلًا - يكتبُ روايته فى باريس سنة 1912 مُتأثِّرًا بالكتابات الرومانسيةِ الفرنسية، فتبدو «زينب» هيكل كأنها «غادة الكاميليا»، ليس هذا فحسب، بل يجعلُ البطل «حامد» يعترفُ أمام شيخ الجامع كما لو كان مسيحيًّا يعترف أمام كاهنه فى الكنيسة. ولكن هيكل مع ذلك كان يؤسسُ لأدبٍ وطنى، هو الأدب الذى اسماهُ «الأدب القومى» يعنى الأدب الذى يستلهمُ الطبيعة المصرية والتاريخ المصرى على نحوٍ يُنتجُ أدبًا مُستقلًّا فى هويته، كما لو كان يؤكد أن هناك فارِقًا بين إعادةِ الإنتاجِ والمُحاكاة والتقليد، فالأولى لا تفارقُ الوعى الوطنى بضرورةِ التحرر السياسى، ومن ثَم الوعى بالهوية الوطنية المغايرة اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وضرورة تحريرها من قوالبِ التقليدِ بوجهٍ عام، والثانية هى نوع من التقليد والاتِّباع الذى يقترنُ بوعى التابع المؤدلج، الدائر فى دائرةِ التبعيةِ بكل أوجهها الاجتماعية والسياسية والأدبية، بما فى ذلك النص الأدبى الذى لا يفارقُ الوعى بضرورةِ الحِفاظ على تقاليد النوع الأدبى، وليس الخروج عليه بالمُضى فى أنواع غير متوارثة، أو لم تَعُد لها الأهمية والمكانة نفسها. ولعل هيكل لم ينجح فى ذلك تمامًا، فكتابته رواية «زينب» فى باريس لم تكن تسمح له بالتخلص تمامًا من التأثير الفرنسى للرواية الفرنسية فى لا وعيه على الأقل. ولكن مقالاته عن الأدب القومى كانت فى تواصلها واستمرارها تأسيسًا لأدبٍ وطنى ظهر فى كتابات المدرسة الحديثة التى مضت فى الطريق الذى رسمه هيكل لتأسيس الأدب القومى أو الوطنى. ولا بأس من هذا الازدواج، فالصفتان «الوطنى» و»القومى» هما ترجمة لكلمة أجنبية واحدة هي: (Nation – National). ولذلك كله أصدرتُ طبعةً جديدةً ومختلفة تمامًا عن كتابى الأول «زمن الرواية»، أفتَتِحُها بملاحظات هى نوع من التأسيس التاريخى، عن علاقة الرواية العربية بتراثها القديم، انتقلتُ منها إلى ملاحظات استهلالية عن تغير النظرة إلى الرواية فى زمننا العربى الحديث، ختمتُها بِرَدِّ الشاب نجيب محفوظ على العملاقِ الكبير عباس محمود العقاد، سنة 1945، مُتأنيًا عند معنى «زمن الرواية ودلالاته» التى جعلت من «زمن الرواية» زمنًا للسردِ أو القص بوجهٍ عام، وانتقلتُ من ذلك إلى وقفةٍ تأمُليَّةٍ عن العلاقةِ التوليديةِ والتى انبثقت بها الرواية عن المدينة فى علاقةٍ حتميةٍ، تصلُ الرواية بالتاريخ وما يترتبُ على الكتابة التاريخية فى الرواية من مُشكلات، وانتقلتُ بعد ذلك إلى مناقشة ظواهر جديدة، أهمها ظاهرة الروايات الرائجة (Best Seller)، ثم اختتمتُ بما رأيتُهُ ضروريًّا، وهو احتفاء بالأعلام الذين أسهموا إسهامًا يجعلُ منهم علامات بارزة فى تاريخِ الرواية العربية. ومن المُصادفات المُبهجة أننى بعد أن فَرَغتُ من كتابةِ ذلك، اطَّلعتُ على موسوعةِ «ألف ليلة وليلة» التى أصدرها المركز القومى للترجمة بترجمة السيد إمام، وهو مترجمٌ مُقتدرٌ كتب مقدمةً ضافيةً لترجمتهِ يتحدثُ فيها عن قيمةِ «ألف ليلة وليلة» فى التراثِ العالمى. وقد أسعدنى ما كتبه عن أن نص الليالى تَبوَّأ مكانة متميزة بين روائع الأدبِ العالمى، وحققَ شُهرةً عالميةً مُنقطعة النظير منذ أن قَدَّمه أنطوان جالان إلى الغرب لأول مرة مُترجمًا إلى اللغة الفرنسية ما بين عامى 1704-1717. لقد استهلت ترجمة جالان موجة «الهوس» بالليالى التى اجتاحت أوروبا منذ أوائل القرن الثامن عشر فصاعدًا، وهى الموجة التى شملت جمهور القراء والباحثين والمفكرين والكُتاب والفنانين على حدٍّ سواء، وذلك للدرجة التى صرَّح معها ڤولتير أنه لم يصبح قاصًّا إلا بعد أن قرأ «ألف ليلة وليلة» أربع عشرة مرة، وتمنَّى أن يُصاب بفُقدان الذاكرة حتى يُعيدَ قراءتها ويستمتع بها مرة أخرى. ويُقِرُّ الكاتب الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز بِدَينِهِ إلى الليالى قائلًا: «لولا عثورى مصادفة فى مكتبة جدى على كتابٍ مُهملٍ، أوراقه صفراء تكاد تتمزق من فرط قدمه، بعنوان «ألف ليلة وليلة»، ما كان لى أن أصبح أديبًا. إن هذا الكتاب هو ما صنعَ مِنِّى أديبًا بعد أن سَحرتنى حكاياته». وقبل جارسيا ماركيز قال بورخيس الكاتب والشاعر الأرﭽنتينى الشهير: «إن جالان عندما نشر مُجلده الأول من ألف ليلة وليلة، كان هذا النشر فى ذاته إيذانًا بالحركة الرومانسية التى بدأت فى اللحظةِ نفسها التى قرأ فيها الفرنسيون كتاب ألف ليلة وليلة». وأُضيفُ إلى ذلك ما قاله إمبرتو إيكو: «إن الروايات الكُبرى فى الثقافة الغربية، من دون كيشوت إلى الحرب والسلام، ومن موبى ديك إلى الدكتور فاوست، قد كُتبت بتأثيرٍ من ألف ليلة وليلة». وهناك حقيقة فيما يبدو لا بد من الاعتراف بها وهي: «أنه على الرغم من حضورِ نص الليالى الطاغى فى الذاكرة، والتداول الواسع الذى حَظِى به، فإنه لم يحتل المكانة اللائقة به التى يسوغها تأثيره الملموس فى دائرةِ التفكيرِ العربى إبداعًا وموروثًا. ومع ذلك ستظل ألف ليلة وليلة حكايات تُشبه نصًّا مفتوحًا ولغزًا عميقًا وشَفّافًا يتشكَّلُ معناه فى كل زمنٍ وفى كل عقل». ويمضى السيد إمام فى مُقدمته مؤكِّدًا: «الغريب أن نص الليالى الذى حَظِى بكلِ هذا التقدير والاهتمام، ونال من الإطراء ما لم ينله نص من قبل، ظل برغم هذا مُهملًا ومُستهجنًا من بين أصحابهِ، يتناقله العامة شفاهة فيما بينهم طيلة قرونٍ دون أن يرقى إلى مرتبة الأدب وفقًا للمعايير التى أقرَّتها مؤسسة الأدب الرسمية التى تتألفُ من علماء اللغة العربية ورجال الدين، التى كانت حريصة على التمييزِ بين أدبٍ رفيعٍ جادٍّ نافعٍ يُعلِّمُنا أساسيات اللغة، وأدبٍ قصصى عابثٍ ذى طابعٍ شعبى، يستخدمُ اللغة الدّارِجة، ويهدفُ إلى التسلية، على نحوٍ لا يستحقُ معه أن يكون أدبًا يستحقُ الاهتمام». (مقدمة موسوعة «ألف ليلة وليلة» ص 28-29) إن هذه الكلمات هى كلمات هامة فى تقديرى، لا بد أن تدفعنا إلى إعادةِ النظر فى «تراثنا القصصى القديم»، ذلك التراث الذى لا يمكن أن نتجاهله عندما نتحدثُ عن أصول الرواية أو فن القص المتجذِّر فى تراثنا العربى. ولذلك، عندما نتحدثُ عن زمنِ الرواية، فلا بد من الالتفات إلى جذورهِ الأقدم فى تراثنا. وهى الجذور التى تؤكد أن فن القص ينشأ دائمًا فى المدينة وبحضورها السردى الذى يقاوم تراتب الأنواع الأدبية (النثر / الشعر) والقمع الاجتماعى (الذكورة / الأنوثة) والقمع السياسى (السلطان / الحكيم). فمن الواضحِ أن زمن الرواية هو حال إبداعى أو زمن ممتد يظهر دائمًا مع تأسس المدينة بعلاقاتها المائزة التى تعنى التنوع العِرقى والفكرى والاعتقادى والثقافى بوجهٍ عام. هكذا كانت بغداد العباسية، ودمشق الأموية، وغيرهما من المدن العربية القديمة التى أنتجت فن القص أو فن الرواية الذى استعاده عَصر الإحياء فى القرن التاسع عشر فى بداية المسيرة التى ابتدأت من أحمد فارس الشدياق ولم تَنتهِ بنجيب محفوظ، بل ظلت مستمرة متصلة إلى أيامنا هذه التى نقرأُ فيها من الروايات ما يُمتعُنا ويجعلُنا نؤمن أننا نعيش فى زمن الرواية الذى هو زمن القص بوجهٍ عام. لمزيد من مقالات جابر عصفور