هل يرضى الإنسان على نفسه بالدناءة؟! بالطبع لا.. بل إنه ينفر من الدناءة، وهذا النفور هو سر تقدم البشرية عبر الحضارات، فالإنسان بطبعه وسجيته الفطرية يهفو إلى السمو والارتقاء، ويسعى إلى المطلق والخلود، واكتشاف ماهية روحه المتعلقة بالسماء، بالله سبحانه وتعالي، وهذا الشعور الوجودى ما يميزه عن الحيوان، فالإنسان فكر، وبالفكر يصل للوعى الداخلى! كلما تجاذبت الحديث مع بعض الأصدقاء العقلاء، أجد لديهم تشاؤما - أرجو من الله ألا يكون معديا - بأن هناك من التغير الاجتماعى ما لم يكن فى الحسبان، من تبدل أخلاقيات الأفراد، وضعف القيم، ويظهر ذلك فى نوعية من الجرائم الجديدة على المجتمع، من الخطف والاغتصاب والتحرش، ووصلت لذروتها فى الجرائم المروعة بقتل الأطفال وتجارة الأعضاء، وما يجعل المأساة غير محتملة أن يقتل الأطفال بيد من بيدهم حمايتهم من غدر الزمن، من آبائهم أو أمهاتهم! ولأننا لسنا فى ترف التشاؤم، أتصور أن هذه الجرائم وإن تعددت إلا أنها لا تمثل ظاهرة فى المجتمع المصري، فبلادنا كبيرة فى كل شيء، فى التاريخ والجغرافيا والسكان، والتفاعلات الجدلية بها تفرز أشرف الأفعال وأحطها، وأرقى التصرفات وأخسها، وأذكى المناورات وأغباها، مع هذه الكثافة السكانية كل شيء جائز! ولكن يبقى المهم الضمير الوطنى العام، الذى ينفجر غضبا عندما تأتى الحوادث بما لا تشتهى الأنفس! فكما أذعرت قضية (ريا وسكينة) الشعب منذ قرن مضي، يبقى الذعر أشد ألما ورعبا من القضايا التى تمس الأطفال الآن، من قتل وخطف أو اغتصاب، وما المظاهرات التى خرجت تنفى عن الشيطان الفاجر جريمته بإلقاء ابنيه فى النيل، إلا حالة إنكار جماعي، لمجتمع لا يريد التصديق أن هذا الشر يتسلل بين أبنائه، ويجب أن نضع فى الاعتبار أن جرائم قتل الأطفال من ذويهم، تعود لحالات متقدمة من الاكتئاب الممتد، خوفا على الأطفال من المصير المجهول. إن مكمن هذا الجنون الذى حط بهم لأذى الأطفال، ما هو إلا الافتقار إلى التجربة الجمالية فى الحياة، فضلوا فى غياهب الظلام، بعد أن مسهم الشيطان، فضمرت التجربة الجمالية وابتعدوا عن روح الله! التجربة الجمالية للإنسان هى بحثه عن ذاته وماهيته، عن الروح، التى تصله بالله، جوهر الكون، ومن إحساسه برفعة هذه المكانة تصور أنها تمثل الجمال المطلق، فبدأ يبحث عن الجمال منذ بدء الخليقة، حتى وصل إلى علم (الاستاطيقا)، أى علم الجمال، فلم يكتف بالجمال الطبيعي، ولكن خلق الفنون لتترك أثرا جماليا عميقا يطهر النفس ويشبع رغبة الإنسان لمعرفة عوالمه الداخلية الغامضة، التى تعذبه كلما غمض عليه اكتشاف عالمه الباطنى الروحاني، وقد أولى الفيلسوف الألمانى (هيجل) - أرسطو العصر الحديث - التجربة الجمالية للبشر عبر الحضارات أهمية عظمى من خلال الفنون التى أبدعوها للوصول للحقيقة الإلهية، التى يهفو إليها عالمهم الباطني، الذى لا يهديء من روعة الحقائق السطحية الخارجية ولا الخطابات الجوفاء. أشار (هيجل) إلى أن التجربة الجمالية تطورت من الأسلوب الرمزى وعالم السحر لتهدئة روح الإنسان وذلك باتخاذ رموز ضخمة تناسب الجلال الإلهي، إلى المرحلة الكلاسيكية لتتحرر الروح من الطبيعة واتخاذ الحيوانات والوحوش مظهرا لها وللتعبير عنها، ليبحث عن المثل الأعلى للجمال فى الإنسان، حتى وصلنا للمرحلة الرومانتيكية وحدث التوافق بين الروح وذاتها، لتصبح عواطف الحب هى المعبرة عن الروح، وتتطور حتى تصل بالإنسان إلى الحرية الحقيقية، بالتشبع بمعانى الحب، من الأخلاق السامية الرفيعة من الوفاء والإخلاص والشرف، ومنه نستمد الوعى الداخلى بالله، وهو مقصد كل الأديان والفلسفة والفنون. وجود هذه الجرائم الدنيئة خاصة ما يستهدف الأطفال ليس إلا علامة على انهيار التجربة الجمالية، الموصلة للجوهر المطلق للوجود، الله سبحانه، وليس أدل على هبوط الخطاب الدينى وكذلك الفنون من هذه الانهيارات النفسية الأخلاقية، فهى فقدت البوصلة نحو طريق الهداية واكتفت بالفجاجة الفاقعة والمهاترات، التى لا تترك أثرا جماليا إلهيا، يأخذ بيد الإنسان نحو مصدر النور الإلهي.. الحب. وإن كان لى أن أتصور حلولا عملية قريبة حتى تؤتى سلة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أكلها، فنبدأ بالجمال المادى الرمزى البدائي، وقد وهبنا التاريخ إرثا معماريا ضخما يتعرض للإهمال والقبح، فماذا لو أعطينا الراغبين فى استثماره، مزايا تفضيلية - كما يحدث فى الخارج -، على أن يعيد للقصور المعمارية الفخمة رونقها القديم، حتى يسير الناس فى الشوارع فخورين بانتمائهم لهذا النوع من الجمال المجاني، كذلك إتاحة جميع الشواطيء لمجرد الرؤية للعامة، كذلك التصدى لجميع أشكال البلطجة التى خلقت مناخا سلبيا بأن قلة الأدب والقبح والانحطاط هى السائدة، بل وينجح مرتكبوها فى الحفاظ على مكانتهم الاجتماعية!! أما الفنون فهى علاج، وليست مجرد ترفيه، ومن خلالها عرف الإنسان الله، وقد وهبنا التاريخ إرثا فنيا يفوق الإرث المعمارى من الجمال الفني، فيكفى (أم كلثوم) والعباقرة الذين خلقوا معجزتها، فى تحويل علاقة الرجل بالمرأة إلى علاقة حب أبدية إلهية، إلا أن الفنون تحتاج إلى الاستمرارية وإلا تعرضت لضمور التجربة الجمالية، ولولا الإرث القديم لما احتفظ هذا الشعب الطيب بتوازنه، رغم الخراب الذى جرى بعد (25 يناير)، ويحتاج إلى جرعة مكثفة من التطهير التراجيدى التى دعا لها المعلم الأول (أرسطو). لمزيد من مقالات ◀ وفاء محمود