فوجئت عندما تقدم ابنى فى حفل زفافه ليقول لي: وفاء هذا الرجل من تريدين قتله، وعاجلنى قبل تأنيبه وكل علامات الدهشة على سمات وجهي، فقال: إنه المخرج «محمد حمادى»، أحد المشاركين فى إعلانات قناة فضائية، كانت تقدم فقرة كوميدية عن المنتج الفظ القبيح وحوله ساقطات لتسليته وإطفاء شهوته، ومائدة مليئة بالأطعمة، ويقوم بتوجيه المخرج والبطلة الكاسية العارية بأفكاره المتدنية، فكان صدمة للمشاهدين جميعا، ولى خاصة، فالتفت إليه مبتسمة سائلة: لماذا كل هذا القبح أتتفنن فى خلق أنماط قبيحة تثير الاشمئزاز بدلا من الجمال؟ لم يرد المخرج المهذب على أسئلتي، وأخذ يضحك على ثمرة عمله الفنى المشاغب لاستفزاز الناس، فليس بالطبع هذه المرة الأولى التى يقابل فيها من يلومه على هذا الإعلان الفنى للقبح، وهو يعتبر فنيا رغم قبحه لأنه نجح فى خلق نمط إنسانى موجود بصور متعددة عندما يتحكم الجهل والتخلف فى مسار الأحداث يسود القبح فى الشكل والسلوك والأفكار، وتؤخذ الأمور على عجل دون تأمل للجوهر الذى تحمله والتداعيات الناتجة عنها، فهذه الفقرة الفنية رغم قسوتها كشفت عن وحشية الجهل، بفقر ذائقته الفنية، وبلادة إحساسه، ويزيده المال فقرا وبلادة ليطيح بكل الجماليات الإنسانية لمن تحت سطوته، وهو السبب الحقيقى لطرد الإخوانجية بإجماع شعبي. تركت المخرج المهذب بعد أن وعدنى بخلق أنماط فنية تثير الإحساس بالجمال، كما نجح فى إحراز نمط فنى يثير الاشمئزاز بالمادية الشهوانية، فالإنسان غريزيا يتطلع إلى الجمال، فقال رسولنا الكريم «إن الله جميل يحب الجمال»، فقوة الجمال هى ما تحرك الإنسان، وربما يشتد حنينه للجمال عندما يصدمه القبح، ولكن إدراك الجمال ليس هينا، فجماليات الطبيعة تحتاج إلى الفن ليشبع حاجة الإنسان للجمال، فالفن ما هو إلا الطبيعة الصماء ممزوجة بعقل الإنسان الفنان. ارتبط الجمال بالمصدر الإلهى من قبل ظهور الأديان، فاهتم فلاسفة اليونان القدماء بوضع نظريات الجمال، وشرحوا الدور الذى يقوم به الجمال الفنى فى التأثير على الإحساس الكلى للإنسان، بالتأثير على حواسه المادية للإدراك الجمالى فوضع الفيلسوف اليونانى «جورجياس» نظرية الإيهام التى يخلقها الفن لخلق الجمال، ثم تطور الفكر الجمالى ليهدف لغاية أخلاقية للذات العاقلة، ولا يقتصر على المعيار الحسي، ومنهم من ربطه بالتعلق الإنسانى الخالد للكمال والخلود، منذ أن اخترع لنا «أفلاطون» فكرة المثال الأعلى لماهية الكون حيث الحق والخير والجمال، يهفو إليها الإنسان، وكلما زادت قدرته على إدراك الجمال، اقترب لنشوة الصوفية بتأملاتها للمثل المطلق النهائى للجمال، وتبنى هذه الفكرة وطورها من بعده الفيلسوف الألمانى «هيجل»، وكذلك الفيلسوف الإسبانى «سانتيانا» الذى جعل لذة الجمال هى متعة الروح بعيدا عن المنفعة المادية، وقد يكون مفيدا أن تتعرض النفس لبعض التجارب القبيحة، حتى تدرك أهمية الجمال، ودوره فى شفاء النفوس العليلة، وهى ضرورة للإنسان ليدرك الجميل من القبيح،وتلك أهمية الخبرة كما قال أستاذنا «نجيب محفوظ» فى إحدى حكمه. أنا شخصيا أدين بالفضل لكل التجارب والشخصيات السيئة، فلولا نقدها ما أدركت جمال الجمال، فى الشكل والموضوع، المادى والعقلي، وإدراك الجمال فى المحيط المعاش هو الثروة المتاحة للجميع كالهواء الذى نتنفسه بلا إدراك، ولكنه يحتاج إلى إرادة ووعى بتأمل مواطن الجمال فى الحياة المتاحة، وليس فى المثال الكامل، ففكرة الفيلسوف الإنجليزى «فرانسيس هتشسون» أكثر واقعية، فاللذة الجمالية فى التأمل فى فكرة ما، من فيض الأفكار التى تحاصرنا، فالعبرة فى التقاط الجمال سواء من الطبيعة أو الفن. وأعتقد ونحن فى إجراءات واعية وجوهرية فى الإصلاح الاجتماعي، علينا بالاهتمام بالبعد الجمالى المفقود، تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية، التى تبعد الانتباه عن أسس قوية، قد تساعد على النهوض بالمجتمع فى كل النواحى بإعادة الجمال لأحيائنا وشوارعنا بالنظام والتنسيق والنظافة، وهو ما يهتم به الإنسان فى أفقر المجتمعات حتى فى القبائل القديمة البدائية، لخلق انتماء فطري، وكذلك تنفيذ برامج إجبارية فى المدارس لإعادة الوعى بأهمية الجماليات، وتدريب الطلبة على صنعها والمشاركة فى الحفاظ عليها داخل مدارسهم وخارجها، على أن تضاف كدرجات تشير إلى صلاحية الطالب للمشاركة الاجتماعية، ويتم بناء عليها ترقية الأساتذة الذين يفلحون فى اكتشاف مواهب فنية من الذخيرة البشرية التى تحت أياديهم. ولأن الجمال مرتبط ارتباطا مباشرا وثيق الصلة بالفن، وهو جوهره، فننتظر من فنانينا لعب دور الإيقاظ الجميل للإدراك، حتى لو صدمونا بالتراجيديا المفجعة أو النماذج القبيحة، المهم النتيجة فى إدراك الجمال، مع أنى لاحظت على فناناتنا الجميلات البخيلات عدم الاهتمام بأناقتهن فى حفل زفاف الموسم، لإيمى سمير غانم وحسن الرداد، وكذلك فى مهرجان القاهرة السينمائي، فلا يجب الاعتماد فقط على الجمال الطبيعى الذى يخلو من الجمال الفني، فالأناقة ليست عورة حتى يفتقدها الآن صناع الجمال، فذلك ليس إلا مؤشر لتراجع وتقهقر للجماليات فى المجتمع كله. لمزيد من مقالات وفاء محمود;