الجمال آية من آيات الوجود، يرسل روحنا إلى ما بعد السماوات، ولا نجد لتلك الحالة تفسيرا يوضح كنهها، ومن أوائل الفلاسفة العرب الذين حاولوا سبر غور الجمال، ليبحثوا في علمه أبو حيان التوحيدي، وذلك في كتابه "الهوامل والشوامل". يتساءل أبو حيان في هذا الكتاب عن سبب استحسان الصورة، وهل كلها من آثار الطبيعة، أم هي عوارض النفس، أم هي من دواعي العقل أم الروح؟ من هذه التساؤلات يتضح أن شغل التوحيدي الشاغل هو التعرف على الأصل في التذوق الجمالي، وهل هو ظاهرة عقلية، أم طبيعية، أم نفسية، أم هذا كله؟ ثم يقرر أن التذوق الجمالي يخضع لعاملين أساسيين هما: اعتدال المزاج لدى المتذوق، وتناسب أعضاء الشيء بعضها إلى بعض في اللون والشكل وسائر الهيئات، من ثم فالإدراك الجمالي عند أبي حيان ليس إلا انفعالا نفسيا باتجاه فعل النفس في الطبيعة التي تنظم صورة المادة. يتضح أيضًا أن النفس هنا -في رأيه- تقوم بدورين، دور فاعل يجعل الطبيعة موافقة لرغبة النفس، ودور منفعل تقوم به النفس، وهو عملية الإدراك الجمالي، وهو ما يذكرنا بموقف أرسطو وخلاصة رؤيته في علم الجمال عندما قال إنه: "لا يمكن لكائن أو شيء مؤلف من أجزاء عدة أن يكون جميلاً إلّا بقدر ما تكون أجزاؤه منسقة وفقاً لنظام ما، ومتمتعة بحجم لا اعتباطي، لأن الجمال لا يستقيم إلّا بالنسق والمقدار"، فالجمال عند أرسطو يكمن في مظهره الأكمل؛ ولذلك قال بأن الفن هو محاكاة للطبيعة. غير أن أبا حيان يشير إلى خمسة عناصر تسهم في بناء الشيء الذي يقال عنه إنه جميل، وهي: العنصر الطبيعي أو الأساس الحسي، فالجميل قد يكون جميلا بحكم تكوينه الطبيعي؛ والعنصر الاجتماعي بالعادة أو الأساس الاجتماعي، وهذا جميل لأن الناس في المجتمع أجمعوا على أن فيه جمالا ليصفوه بذلك، والعنصر العقلي أو الأساس الفكري، وهنا قد يكون جميلا لأن الدين دعا أو لفت إليه، وقد يكون جميلا لأن البصيرة أو العقل أدركا فيه هذا الوصف، وعنصر الشهوة أو الأساس الغريزي، وهذا أيضًا قد يكون جميلا لأنه يلبي الرغبة الشهوانية في الإنسان. أما الفارابي فجاءت نظرته للجمال موافقة أو قريبة الشبه من رؤية أستاذيه أفلاطون وأرسطو، فرأى الفارابي أنه كما أن الكمال في الجلال كائن، فكذلك يكون الكمال في الجمال، و"إن كل موجود إنما كوّن ليبلغ أقصى الكمال الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود التي تخصه"؛ والكمال هو أصل للجلال والجمال، وذلك لأن كمال الشيء هو الذي يجعله جليلاً أو جميلاً وافتقاده يجعله قبيحاً، فيقول مدللا على ذلك: "الجمال والبهاء والزينة في كل موجود هو أن يوجد وجوده الأفضل، ويحصل له كماله الأخير، فإذا كان الأول وجوده أفضل الوجود فجماله فائت لجمال كل ذي جمال". والرؤية الجمالية عند أبي نصر الفارابي تنكشف من خلال نظريته العامة في الوجود، وهي نظرية أصلها يوناني، وتعرف بنظرية الفيض أو الصدور، ويرى الفارابي أن الجمال أشمل وأعم من الجلال إذا نظرنا لهما من حيث المدلول، أي أنه لما كان الجلال مرتبطا بالذات والصفات والأفعال الإلهية، أصبح الجمال مشتركا بين جميع الموجودات، ولكن كل موجود يصنف حسب مراتب وجوده من نظرية الفيض أو "الصدور"؛ فالفارابي يرى أن قمة الجمال في موجود ما نراها في كماله الأخير. وليس في الإمكان الحديث عن فلسفة الجمال دون ذكر امانويل كانط، الفيلسوف الألماني الكبير، فكتابه "نقد ملكة الحكم" يعد الحجر الأساس والرئيس في بناء علم الجمال، ومن خلاله أشار كانط إلى أنه ليست هناك قاعدة ثابتة، ولا أطر محددة يستطيع المرء بها أن يتعرف على جمال شيء ما، أي أن الحكم على الجمال حكم ذاتي، فبدهي إذن أن يختلف هذا الحكم من شخص لآخر؛ لأنه ليس حكما منطقيا قائما على تصورات عقلية. فلما كان الحكم الجمالي يمثل ذوق كل شخص ونابعا من داخله؛ إذن فمصدر الحكم واحد غير أنه يختلف في رؤيته من شخص لشخص، لذلك عرف كانط الجمال قائلا: "هو قانون بدون قانون"، وعندما عرف الفن قال "إن الفن ليس تمثيلا لشيء جميل بقدر ما هو تمثيل جميل لشيء ما"؛ لذلك ليس غريبا أن يعد امانويل كانط نقطة تحول جلية في تاريخ علم الجمال. من ثم فهناك رؤيتان تحكمان علم الجمال، ففريق قال باستحالة وجود قاعدة عامة تسن مقاييس لما هو جميل، أي أنه من الخلط القول بمقاييس عامة للجمال، وهؤلاء أنصار المنهج الذاتي، وكان على رأسهم كانط الذي يقول بأن الحكم على الجمال حكم ذاتي، وبذلك فهو يتغير من شخص لآخر ويرى أن الشعور بالجمال نابع من داخلنا نحن، أي أن هذا مزاج روحي وليس للطبيعة أثر فيه، غير أن جمال الشيء لا علاقة له بطبيعته، وهذه المحاكمة الجمالية تصدر من الاندماج الحر للفكر وقوة الخيال. وسار على هذا الدرب الكثير من المفكرين مثل هيجل، الذي قال "إن الجمال في الطبيعة لا يظهر إلا كانعكاس للجمال الذهني.."، كذلك فيكتور باش، الذي قال "إننا حين نتأمل الأشياء نضفي عليها روحًا من صميم حياتنا، وإننا لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في أنفسنا من جمال". هذا الفريق إذن أنكر الجمال المستقل للأشياء وللطبيعة، ورأى أن الجمال الوحيد لا يوجد إلا فينا وبنا ومن أجلنا. أما الفريق الآخر فيتمثل في أنصار المنهج الموضوعي الذي حدد مقاييس للجمال، وهؤلاء يرون أن الجمال مستقل وقائم بحد ذاته وموجود خارج النفس، فالجمال لديهم لا يتأثر بالمزاج الشخصي، ويرون أيضا أن خصوصيات الأشياء الجميلة مستقلة كما وكيفا عن العقل الذي يدركها. وممن قال بموضوعية الجمال، غوته، الذي رأى أن "للإبداع الفني قوانين موضوعية"، وديموقراط، القائل بأن "للجمال أساسا موضوعياً في العالم". هذا التنوع لا شك يضفي ثراءً على علم الجمال، ويعزز قدرة الإنسان في معركته ضد القبح بكل أشكاله.