من سنوات طويلة ركز أهل الفن وصانعوه على تقديم أفضل ما عندهم فى الشهر الكريم، حيث ترتفع نسب المشاهدة، والرغبة فى الترويح عن النفوس، حتى لا تكل ولاتعمى ، فتكامل الفن الراقى مع الإخلاص فى العبادة لوجه الله، للارتفاع بالنفس الإنسانية من درك القبح، إلى مراتب الجمال العليا، فى الإحساس والشعور والسلوك والقيم والأخلاق. والفن عامة كان طريق الإنسان للوصول للكمال الأسمي، وإدراك الجمال المطلق الكلي، فوصل إلى الله سبحانه وتعالي، فغاية الفن التعبير عن النفس الإنسانية ببلاغة، تمكنه من الوصول لإحساس الناس، ومن ثم للشعور الإيجابى بقيمة الحياة، وجمال التجربة الإنسانية، وهو لا يأت إلا بإدراك عميق للمعني، الذى يحدد للإنسان معنى حياته، وموقفه منها ومن الآخرين ومن الكون كله، فالفن ليس وسيلة ترفيهية تبعث على اللذة والسعادة فقط بل هو تجسيد لمعنى الإدراك، وغاية الإنسان من حياته، باستخدام وسائل فنية يترجم من خلالها الفنان الصور الفنية، التى تلخص وعيه، ليصل للناس، ليشكل كل واحد منهم وعيه الخاص، من الصور الفنية التى وصلت لإحساسه وشعوره، ولعل فى الزمن الحالى أصبحت التكنولوجيا ترجح كفة السينما والتليفزيون، فى إيجاد جماهيرية واسعة لفنون الدراما،على حساب الفنون الأخري، فأصبح لها أهمية إضافية لأهميتها الفنية، لسرعة وصولها وسعة انتشارها بين الناس، وأصبح شهر رمضان كموالد الصوفية سوق واسعة جامعة، لأفضل ما لدى الفنانين فى هذا المجال، ولديهم جمهور واسع ينتظر الحدس الفنى مع العبادة الدينية، وكلاهما يجرى على مستوى الروح، ليسعد الإنسان بإنسانيته.. ويكتشفها، كما فى حلقات الذكر، حيث يعايش الإنسان السر الإلهي، ويتجاوز المشاعر السلبية والغضب والتذمر، إلى حالة الرقى والتسامح والرضا بأمر الله، واكتشاف مواطن السعادة الحقيقية فى الحياة. ومائدة رمضان هذا العام يتألق فيها عدد من أبناء الفنانين، من تربوا فى مناخ فني، يدرك أهمية الفن وسمو دوره، فى صناعة وعى الناس، وتنمية الإدراك بالجمال، ونجد أن هؤلاء الأبناء، قد تربوا على احترام الفن، باحترامهم لدور ومقام أهاليهم فى تشكيل الوعي، فكان المناخ المهيأ لهم،لاكتشاف مواهبهم ورعايتها، وقبل كل شيء احترامها، فاللأسف نحن نعانى من ثقافة عامة تنظر للفن على أنه مهنة من لا مهنة له، وإنه تضييع للوقت فى اللهو الرخيص، وهو الخلط الذى يقع فيه العديد من الكبار، ومنهم الفنان الكبير ( عادل إمام)، الذى يصر على أنه يرفض عمل ابنته فى الفن، فخضع للمعيار الثقافي، الذى ينظر للفنانات بأنهن متحررات من القيم الأخلاقية والاجتماعية، بينما الفنانة الحقيقية هى من تفهم وتعقل وتشكل القيم ، بقدرتها على إثارة الخيال، لا للشهوة، ولكن للإدراك والوعي، وهو ما تمثله الأم الروحية للفنانات والفنانين، بل وللمتأثرين بجمالها الإبداعى القديرة (مديحة يسري) الفنانة التى احترمت الفن ورسالته منذ بدايتها، وحتى الآن، ومسيرتها الفنية تكشف أن عطاء الفنانين ليس كأى عطاء، لأنه عطاء على مستوى الروح فهى أعملت عقلها فى كل مرحلة من حياتها لتحسن التعبير بالفن، واجتهادها وإخلاصها أوصلها لتكون صاحبة (حدس)، تملك رؤية عقلية روحية تعبر عن الإنسان والمجتمع، بمواهب وقدرات ربانية، لا تخبو مع الزمن، فهى دائما ملهمة ومعبرة، والنشوة الجمالية التى تبعثها لا تخبو، كرمز لقيمة الفن والفنان المبدع، فندعو الله أن يطيل فى عمرها ألف عام، لتصد عنا سخافة الجهل والسطحية والتعصب والغرور الأحمق، وإن كان الوعى الذى خلقته لا يموت ولا يفني، وحبها للفن والخير، هما وجهان لعملة واحدة. حدس الفنانة القديرة، استطاع أن يعبر عن روح قرن كامل فى تاريخنا فأعمالها تمثيلا وإنتاجا، عبرت عن القيم الجمالية فى أزمنة وأنظمة اجتماعية متباينة، قبل ثورة يوليو وبعدها، حتى عندما احتجبت عن الفن لفترة لم تعتبر ذلك اعتزالا أو توبة عن الفن، فالتوبة لا تكون إلا عن الشر، وعادت إلينا بحدس جديد، ينير ظلمة الحياة، فالفيلسوف الإيطالى (كروتشه) يتصور أن المعرفة الحدسية وأداتها الخيال، تساوى المعرفة المنطقية وأداتها العقل، ونشاط الروح كله يقوم على الفن، فالحدس يسبق المنطق والفلسفة والعلم أيضا، فمن يفهم موقع الفن الروحي، لا يتوب عن عظمته وجلاله، ولذلك لا أستغرب عودة عدد كبير من الفنانات اللاتى أطلق عليهن «التائبات» إلى الفن، وتوبتهن عن تلك التوبة غير الصحيحة، يصحح المفاهيم، فنحن جميعا نحتاج دائما للتوبة عما تقترفه نفوسنا من قبيح الأفعال والأقوال والأحاسيس، والفن يقودنا لذلك،، وهو ما يرشدنا إلى مواطن القبح والجمال، بمخاطبة الشعور مباشرة، حسب قوة الحدس الفني. أعتقد أن التراث الفنى فى مصر فى مختلف المجالات قد أنقذها، ليس فى التمثيل أو السينما فقط، فالفنون متعددة، فهى كما يرى (فيكتور هوجو) الريح هى كل الرياح، ذلك التراث هو من حمى الروح المصرية من التلاعب بها باسم الدين والمشاعر الروحية فالحس الفنى الموروث كشف ألاعيب التجار والعملاء، الذين لا يتركوا فتنة إلا وأوقدوها، وكلما زادوا من نيرانهم، كلما حولها الفن إلى نور يكشفهم، ويفضح مخططاتهم، التى قد ينخدع بها الصغار، لكن الشعب المصرى عجوز على أوهامهم، وليس عاجزا عن صدهم، لعمق الخبرة الفنية فى وجدان عموم الشعب التى أورثتنا إياها العظيمة مديحة يسرى وزميلاتها وكذلك وجبة رمضان الروحية من العبادة والفنون الخالصة لوجه الله! لمزيد من مقالات وفاء محمود