صحيح أن معطيات التاريخ تشهد أن الولاياتالمتحدة، قد استهدفت منذ تكوينها، تحقيق مستوى عالٍ من التطور السياسى داخليًا، تحكمه قيود دستورية، أسست بنيات لمؤسسات التوظيف الديمقراطى التى تشدد على المعنى السياسى للمواطنة، بوصفه مبدأ الشرعية السياسية، الذى يقوم عليه التنظيم المجتمعي، وأيضًا بوصفه الاداة الحاسمة التى تسمح لهذا التنظيم أن يتحقق فى سياق مجتمع، تحكم التعددية الثقافية كيانه الاجتماعي، حيث لا يشكل الاختلاف العرقي، أو الديني، أو الطائفي، حدًا نفسيًا بين المواطنين، أو يمنع عنهم حقًا مشروعًا لهم. ولا شك أن استقصاء ما يحدث واقعيًا ومتابعته بالنسبة للديمقراطية، يكشف رصيد فعاليتها مجتمعيًا، وذلك بقدر تراكم مصداقية مطابقة ممارسات الواقع السياسى والاقتصادى لأهدافها، لكن الوعى النخبوى تحديدًا بالسيادة والنفوذ فى الولاياتالمتحدة مارس انتهاك الديمقراطية، وحقوق الإنسان كافة تغييبًا للاستحقاقات المشروعة للمواطنين واغتيالاً لهم، ولأن الفاصل الحدى بين الديمقراطية وغيرها من النظم، ليس فى إجراء الانتخابات وتداول السلطة، وحرية التعبير والاجتماع، إذ تستخدم تلك الممارسات بوصفها استثمارًا إغوائيا لضمانات خادعة، تخفى ازدواجية ملتبسة، بين ظاهر ديمقراطى ومضمون استغلالى معاكس، حيث عندما يتم اختطاف الإرادة الشعبية لتفارق ممارسات منطلقاتها الديمقراطية، عندئذ تفقد استنفارها الدائم بيقين فعالية ارتباطها بحقوق المواطن العادى بوصفه المرجعية المستقرة للديمقراطية. والصحيح كذلك أيضًا أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتبطن بالتواطؤات، وتتوارى بآليات التداخلات المصحوبة بخطابات التسويغ، وتسترصد بمعاييرها المزدوجة، ومقاصدها الإجرائية المستترة والمعلنة، تكريسًا لسلب الحقوق، كما تتصدى بسطوة الإمعان فى ممارسة الضغوط تسيدًا لحساب مصالحها، دون الالتزام بمرجعيات الاستحقاق، وليس شيء من ذلك كله بغائب عن تناولات مفكريها، ونقادها الأمريكيين أنفسهم، فى انتقاداتهم العادلة ووعيهم المضاد لخروقات السياسة الأمريكية داخليًا وخارجيًا. إن الكاتب السياسى الشهير مايكل برانتي، مؤلف كتاب ديمقراطية للقلة، الذى ظهرت طبعته الأولى فى الولاياتالمتحدة عام 1971، ثم أعيدت طبعته التاسعة عام 2011، قد طرح مؤلفه باقتدار مراجعة الواقع، والتفكير فى المستقبل، وهو جزء من عملية أوسع لامتداد دور الوعى من الفردانية إلى الاقتدار على الإمساك بالمنظور الواسع للواقع معرفيًا؛ تحقيقًا لنمو الوعى البشرى التشاركى بالمستقبل، الذى يربطنا بعالمنا وبالإنسانية، ويوسع ويمدد عالم الأفكار والحقائق والوجود الإنساني؛ بل يفتح ذهن الإنسان إلى التفكير فى أنواع بديلة لمنظور الحقيقة والوجود، فى مواجهة طغيان ممارسات تبديد سلطة الحقوق، والقيم المرجعية للديمقراطية، انطلاقًا من أن الوعى بالمستقبل يتضمن تعزيز إمكانات متعددة الأوجه للحكمة، وتحفيز العقل البشري، وكفاية الذات، والكشف عن الأوضاع المغلقة التى تسلب حقوق الأغلبية والمعادية للديمقراطية، استهدافًا لتطوير الوعى بالواقع وإدراكاته والتوجه إلى المستقبل. صحيح أن انعدام العدالة يمثل أحد أقوى مصادر الشعور بالظلم، وأن أنظمة الحكم صاحبة اليد المتورطة فى خلق هذا الصراع، وصحيح أن المؤلف طرح كذلك خريطة المخاطر المعادية للديمقراطية، والصحيح أيضًا أنه طرح أسئلة مهمة وعديدة، لكن سؤاله الكاشف عن الحق الاحتكارى لفئة من المجتمع الأمريكي، تجلى فى تساؤله عن : من الذى يملك أمريكا؟ الذى جاءت إجابته: أن نسبة 10 % من البيوت الأمريكية التى تتربع على قمة الهرم، تملك 98 % من السندات المعفاة من الضرائب، كما تملك أيضًا 94 % من الأصول المالية لمؤسسات الأعمال، وكذلك تملك 95 % من قيمة جميع الودائع، كما تملك الطبقة الأغنى التى لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين ما يصل إلى 60% من أسهم الشركات الكبري، وكذلك 60 % من كل مؤسسات الأعمال. كما أن حقائق المباينة فى تغييب الاستحقاقات المشروعة للمواطنين الأمريكيين، تبوح بها مرجعيات لسجلات ووثائق نستحضر منها هذه الحقائق: تم تسجيل وجود (46) مليون شخص فى وضع الفقر، كما يفتقر إلى الغذاء الكافى (48) مليون شخص، وأيضًا يوجد (560) ألف شخص بلا مأوي، ولا يزال (33) مليون شخص دون تأمين الرعاية الصحية، ويندرج (44) مليون عامل فى القطاع الخاص لا يتمتعون بالحق فى الحصول على إجازات مرضية مدفوعة الأجر، وهناك (17) مليون طفل دون أب وتحت خط الفقر. إنها أوضاع مغلوطة ومتناقضة، نتيجة اختزال الوجود الإنسانى لفئات من البشر بالتعدى على استحقاقاتها لحساب قلة. ساد المشهد الاجتماعى الأمريكى مناخ من الإحباط والغضب، حيث أعلنت أطراف هذا المشهد أن تدابير صياغة الواقع الراهن وسياساته، أنتجت سلسلة من خيبات الأمل الضاغطة على جودة الحياة، وانتشر سجال لخطاب سياسى مناهض اضطلع به تيار منشق يعارض سياسات الإدارة الأمريكية الداخلية والخارجية، رافضًا كل أطروحات أوباما السياسية، والاجتماعية، والمالية، منددًا بمخاطرها، ثم ما انفك هذا التيار أن شكل طفرة باستنفاره مناصريه، منذ اندلاع تظاهراته الضخمة عام 2009، المطالبة بالعودة إلى القيم الأمريكية، حتى استطاع عام 2010 أن يسجل انتصاراته فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس؛ استعدادًا لانتخابات الرئاسة عام 2012، طارحًا رهانه متمثلاً فى الدعوة إلى الفردانية المطلقة، وسياسة حماية ضد المنتجات المستوردة، وإعادة الاعتبار إلى الإنسان الأبيض، وسياسة تقليل القيود على الهجرة، والتحفظ على سياسة أوباما التصالحية مع العالم الإسلامي، والمطالبة بالتأييد المطلق لإسرائيل. صحيح أن الفيلسوف الأمريكى جيمس بيرنستان فى استقرائه لهذا التيار، أشار إلى أنه يشكل عنصرًا سياسيًا مفاجئًا يجب أن يحظى بالبحث والتحليل العميق للتأثيرات التى سيحملها مستقبلاً فى صنع القرار الأمريكي، كما أن الكاتب توماس فرانك قد أطلق عليه اليمين المنبعث، وذلك فى كتابه الشفقة يا مليارديرسمعللاً ظهوره بتزامنه مع تزايد المصاعب التى يواجهها المواطن؛ إذ إن قطاعًا عريضًا من الأمريكيين خذلتهم سياسات أوباما، والصحيح أيضًا أن تواتر التساؤلات عن هوية هذا التيار، جاء تحريًا عما إذا كان تيارًا حقيقيًا، أم أنه مناورة سياسية من الأحزاب أو غيرها، لكن المفاجأة التى كشفت عنها التقارير الأمريكية، هى أن شركات ديفيد وتشارلز قد تبين تورطهما فى اختراق الحظر الأمريكى بالتعاون مع إيران. وتضج التساؤلات: أهو انزلاق جرى ترتيبه بإحكام؟ أم أن المال السياسى استطاع اختراق المحاذير؟ أم أنه تورط سابق الإضمار من جانب الشركات؛ استهدافًا إلى مزيد من الأرباح؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى