د. فوزى فهمى تتبطن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالتواطؤات، وتتواري بآليات التدخلات المصحوبة بخطابات التسويغ وتسترصد بمعاييرها المزدوجة، ومقاصدها الاجرائية المستترة والمعلنة، تكريساً لسلب الحقوق، كما تتصدي بسطوة الامعان في ممارسة الضغوط تسيدا لحساب مصالحها، دون الالتزام بمرجعيات الاستحقاق، وليس بشيء من ذلك كله بغائب عن تناولات مفكريها، ونقادها الأمريكيين انفسهم، في انتقاداتهم العادلة ووعيهم المضاد لخروقات السياسة الأمريكية الخارجية. وعلي جانب آخر، فإن معطيات التاريخ تشهد أن الولاياتالمتحدة حققت - داخلياً- مستوي عاليا من التطور السياسي تحكمه قيود دستورية، أسست بنيات لمؤسسات التوظيف الديمقراطي التي تشدد علي المعني السياسي للمواطنة، بوصفه مبدأ الشرعية السياسية، الذي يقوم عليه التنظيم المجتمعي، وأيضا بوصفه الأداة الحاسمة التي تتيح لهذا التنظيم ان يتحقق في سياقه مجتمع »موزايك« تحكم التعددية الثقافية كيانه الاجتماعي، حيث لا يشكل الاختلاف العرقي، أو الديني، أو الطائفي، حدا نفسيا بين المواطنين، او يمنع عنهم حقا مشروعا لهم. صحيح ان أي مجتمع في محاولته السيطرة علي مستقبله، قد يواجه تحديات، او مشكلات او تهدده ازمات، حيث يخضع نوع الازمة لتقديرات نظريات الازمات السياسية، الي ثلاثة احتمالات، أولها: ازمة مصيرها الموت وتعني انهيار الدولة، وثانيها: صعوبات سياسية مزمنة وأداء لا يرقي لأمثل المواجهات وذلك ما يعني أزمة تطاق وثالثها: مشكلات سياسية قصيرة المدي يمكن حلها، وهو ما يعني ازمة قابلة للشفاء، والصحيح في ضوء ذلك، ان المشهد الاجتماعي الأمريكي يسوده مناخ من الاحباط والغضب، حيث اعلنت اطراف هذا المشهد ان تدابير صياغة الواقع الراهن وسياساته، انتجت سلسلة من خيبات الامل الضاغطة علي جودة الحياة. وانطلاقا من ان المؤسسة السياسية الحاكمة وفقا لمفهومها الجوهري، تعني ممارسة المبادرة في إدارة شئون الوجود الجمعي، تحقيقا للاستقرار الاجتماعي، لذا انتشر في المجتمع الأمريكي سجال لخطاب سياسي مناهض، اضطلع به تيار منشق، يعارض سياسات الادارة الأمريكية الداخلية والخارجية، مندداً بمخاطرها، رافضا توجهات أوباما، رافعاً راية التغيير فاكتسب اهتماما لافتا، وهو التيار الذي يعرف باسم »حركة الشاي«. ان رصد قرائن التأثير المباشر »لحركة الشاي« في المجتمع الأمريكي، يشير انها تمثل منعرجا حاسما، بوصفها بلورة لاكبر حركة سياسية محافظة، والاكثر تطرفا في الولاياتالمتحدة، تقف علي يمين الحزب الجمهوري المحافظ، وهو ما يعني انها تخلخل خارطة وجود الحزبين معا، الديمقراطي والجمهوري، إذ ما انفكت تشكل طفرة باستنفارها مناصريها منذ اندلاع تظاهراتها الضخمة عام 9002، المطالبة بالعودة إلي القيم الامريكية، حتي استطاعت عام 0102 ان تسجل انتصاراتها في انتخابات التجديد النصفي للبرلمان، اذ دفعت بممثليها للترشح باسم الحزب الجمهوري الذي تشاركه قاعدته الشعبية، وتستعد لانتخابات الرئاسة في نوفمبر 2102، لا يستطيع الراصد التغافل عن ان تسمية الحركة باسم »الشاي« أمر لا يبرح دلالته، إذ ينطلق من ارث النضال الامريكي في انتفاضته الأولي التي اشعلت ثورته من أجل الاستقلال عن الامبراطورية البريطانية، حيث بدأت بالقاء الامريكيين حمولة السفن التجارية من الشاي في البحر، اعتراضا علي زيادة بريطانيا الضرائب عليهم، وهي دلالة متعالقة بمطالب الاحداث الراهنة، كما لا يغيب عن الراصد ان »حركة الشاي« تصنع السحر في المجتمع الأمريكي، ولايقودها ساحر بمعني انها ليست حزبا يقوده زعيم بعينه، بل محض تحالف تقوده منظومة فكرية مرجعية استحواذية وحيدة، تنتمي إلي أشد المؤثرين في صياغة المعتقد الفكري للحلم الامريكي وهي الفيلسوفة والكاتبة آين راند »5091-2891« التي جسدت في اعمالها الفكرية والابداعية نموذج اليمين الامريكي المتحرر، في اطار قناعتها بخيرية الرأسمالية، وايمانها المطلق بأن امريكا هي المجتمع الاخلاقي الوحيد في تاريخ البشرية، وضمانة هذا المجتمع تكمن في ازدهار قيم الفردية المطلقة، والاقتصاد الحر، وقداسة حقوق الملكية الخاصة، لذا تختصم »حركة الشاي« كل اطروحات اوباما المالية، والاجتماعية والسياسية وترفضها، مثل قانون الاستقرار الاقتصادي وقانون اصلاح الرعاية الصحية، وفرض الضرائب، وتطرح الحركة رهانها متمثلا في الدعوة إلي الفردانية المطلقة، وسياسة حماية ضد المنتجات المستوردة، واعادة الاعتبار الي الانسان الابيض، ومواجهة سياسة تقليل القيود علي الهجرة، والتحفظ علي سياسة اوباما التصالحية مع العالم الاسلامي، والمطالبة بالتأييد المطلق لاسرائيل، ثم الحد من تدخل الولاياتالمتحدة في القضايا الدولية، لممارسة دور شرطي العالم. صحيح ان الفيلسوف الامريكي »جيمس بيرنستان« في استقرائه لهذه الحركة، اشار الي انها تشكل عنصراً سياسيا مفاجئا يجب أن يحظي بالبحث والتحليل العميق للتأثيرات التي ستحملها مستقبلا في صنع القرار الأمريكي، وصحيح أيضا أن الكاتب »توماس فرانك«، قد أطلق عليها »اليمين المنبعث«، وذلك في كتابه »الشفقة يا ملياردير«، معللا ظهورها بتزامنها مع تزايد المصاعب التي يواجهها المواطن، إذ إن قطاعا كبيرا من الأمريكيين خذلتهم سياسات أوباما، كما أوضح الكاتب أيضا أن اللجوء إلي الدين، والإغراق في مظاهر التدين، يعدان ملاذا للمواطن في مواجهة كوارث لم يكن سبب حدوثها، وصحيح أيضا انه تواترت التساؤلات عن هوية هذه الحركة، تحريا عما اذا كانت حركة حقيقية، أم أنها مناورة سياسية من الأحزاب أو غيرها، لكن الصحيح كذلك هو المفاجأة التي كشفت عنها التقارير الأمريكية، والمنشورة بالصحف العالمية، بأن شركات »ديفيد وتشارلز كوتش«، اللذين يعدان أكبر الممولين ل»حركة الشاي«، قد تبين تورطها في اختراق الحظر الأمريكي، بالتعاون مع إيران عبر واجهات غير أمريكية. وتضج التساؤلات: أهو انزلاق تم ترتيبه بحسابات دقيقة وإحكام، حتي يقام الاتهام، أم تري أن المال السياسي استطاع بالمخاتلة، اختراق المحاذير، بل الحدود الجغرافية للولايات المتحدة، توظيفا لمخططات، استرشادا بالشعار الامريكي الشهير، أن المصلحة القومية، ليست مصطلحا جغرافيا، أم أنه تورط حقيقي سابق الإضمار من جانب الشركات، استهدافا إلي مزيد من الأرباح؟