تهيمن الولاياتالمتحدةالأمريكية على النظام المالى العالمي، بعملتها الدولار الذى يسيطر على النظام المصرفى والمبادلات التجارية الدولية، دون منافس تقريبا، إنه العُملة المرجعية لقُروض صندوق النقد والبنك الدوليين، أيضا تقترن قوة الدّولار بالقوة العسكرية الأمريكية وما تحوزه من أسلحة دمار شامل وقواعد عسكرية فى أرجاء الدنيا، فالعملة الخضراء فى وجه من الوجوه أخطر سلاح فى الترسانة الأمريكية، بل أداة غير تقليدية للقتل الجماعى عند اللزوم، ذات يوم قال ثعلب السياسة المخضرم هنرى كيسنجر: إذا كنت تتحكم فى المال، فإنك تتحكم فى العالم. تستغل واشنطن سطوتها على الاقتصاد العالمى فى إضعاف المُنافِسين والخصوم، أعداء أو حلفاء. حرب عالمية على أشدها، الدولار أمضى أسلحتها، كالأزمات المالية العالمية عامى 1997 و2008، الحرب التجارية على الصينوروسيا وحلفاء أوروبيين كألمانيا وأطلسيين مثل تركيا. كل ذاك ظاهر معلوم، أما الغاطس الخفي، فهو لب/فلسفة النظام الرأسمالى العالمى فى نسخته الأخيرة، أى (النيوليبرالية)، تقوم على ضمان استمرار استنزاف الثروة من بلاد الجنوب إلى دول الشمال، عبر آليات مبتكرة، أحيانا متوحشة وعنيفة، تكرس هيمنة سياسية ثقافية معرفية غربية على العالم، تترك آثارا فى حياة الشعوب الأخرى كحروق النار فى ظاهر اليد. فى الوقت الراهن يخيم شبح الأزمة على الأسواق الناشئة: تركيا، الهند، روسيا، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، المكسيك، الأرجنتين..إلخ. كتب الخبير الاقتصادى العالمى الدكتور محمد العريان: إن الأرجنتين احتلت المرتبة الأولي، كصاحبة أسوأ العملات أداء فى الأسواق الناشئة هذا العام، مع أنها فعلت كل الأشياء الصحيحة لمكافحة التوترات المالية الخطيرة، التزمت الأرجنتين بكتيب إدارة الأزمات، فيما يتعلق بالتعامل مع الاضطرابات المالية، وفى وقت سابق من العام الحالي، لجأت فجأة إلى صندوق النقد، لمساعدتها فى مكافحة الضغوط المعتدلة على العملة، وشددت الحكومة السياسات النقدية والمالية، وصرفت أولى دفعات البرنامج البالغ 50مليار دولار من الصندوق. وما يجعل الأمر لغزا أن البيزو الأرجنتينى لم يستقر، بل تراجع أمام الدولار أكثر من 50% خلال الأشهر الثمانية الماضية، اضطر البنك المركزى لرفع أسعار الفائدة مجددا لتصل إلى نسبة مذهلة 60%، وكرر الرئيس ماكرى الاستغاثة بالصندوق. يشير ذلك إلى هشاشة أوضاع الاقتصادات الناشئة، نتيجة اللجوء إلى الديون الخارجية وتوظيفها فى قطاعات غير إنتاجية، ولن يكون مفاجئا أن تضرب عدوى الأزمات دولا أخري، نتيجة ضعف الركائز الاقتصادية، النمو البطئ، نقص السيولة، الأداء السيئ لصناديق الاستثمار (بلغ متوسط خسائرها 10% العام الحالي)، يفاقم خطورة الأمر الاعتماد المفرط على الديون الخارجية قصيرة الأجل، أو ما يعرف بالأموال الساخنة، حيث يؤدى رفع واشنطن الفائدة على الدولار إلى تدفق الاستثمارات على الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بقيادة الولاياتالمتحدة، مهاجرة من الاقتصاديات الناشئة، فتتهاوى قيمة عملاتها، كالليرة التركية والبيزو وغيرهما، كلّ الأسواق الناشئة تعانى اليوم، بتأثير سحب الأموال صوب الغرب، وكان هذا سببا أساسيا فى الأزمة الآسيوية عام 1997. برهنت الأزمات العالمية خلال العقدين الماضيين على أن (الدولار) عملة مربحة لأمريكا، ومشكلة متعددة الأوجه للعالم، يخنق (الاحتياطى الفيدرالى الأمريكي) اقتصاديات بعض الدول، عن طريق التيسير النقدي، ثم التلاعب بالفائدة على الدولار هبوطا وصعودا، لإجبار الاقتصاديات النامية على الرضوخ لقوانين السوق الحرة (النيوليبرالية) وتكبيلها بالديون، بوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، لقد تضاعفت ديون تلك الدول– باستثناء الصين – من 15 تريليون دولار عام 2007 إلى 27 تريليونا نهاية 2017، وفق البنك الدولي. وفى الشرق الأوسط المكشوف أمام ألاعيب القوى الكبري، لا حصانة لأحد، من الأعاصير الاقتصادية، إن تاريخ النيوليبرالية فى بلادنا العربية طوال العقود الأخيرة شاهد على اجتثاث مقدرات التنمية ونهب الثروات بالحروب والدمار والأزمات من كل صنف ولون، فلم يفض الانفتاح الليبرالى إلى زيادة الطاقات الإنتاجية كما هو مأمول، بل العكس هو الصحيح. خبرنا هذا فى مصر، وما يطمئن، اليوم، أن القيادة السياسية واعية بتقلبات المسرح الإقليمى والدولي، كما أن تصريحات محمد معيط وزير المالية تشف عن رغبة أكيدة فى لجم الاستدانة من الخارج، اتعاظا بما يجرى حولنا، وذاك مصل مناعة للاقتصاد الوطني، أمام الأزمات الهائمة. يقول الاقتصادى الأمريكى روديجر دورنبوش: إن الأزمات تستغرق وقتا أطول بكثير مما يمكن أن تتخيّله حتّى تصل؛ ولكنها حين تقع، فهى تحصل بشكلٍ أسرع بكثير مما يمكن أن تتخيّله!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن