تصاعد الجدال فى الفترة الأخيرة حول المقارنة بين العهد الملكى وعهد ثورة يوليو وايهما كان أفضل، وتطرق المتناقشون إلى العديد من القضايا التى تميز أحد العهدين عن الأخر دون أن يتناولا الحقيقة الجوهرية التى يمكن أن تكون معيارا للمفاضلة بين العهدين وهى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل من العهدين وهل كانت تسمح بمزيد من تطور المجتمع نحو أوضاع أفضل لصالح غالبية السكان ام انها كانت قيدا على هذا التطور. هذه الحقيقة الغائبة فى النقاش حول العهدين هى مربط الفرس فى المقارنة بينهما ويمكن من خلالها الحكم على العهدين وأيهما كان أفضل لمصر وشعبها. سوف نعتمد هنا فى الحديث عن الأوضاع فى العهد الملكى على مصادر رأسمالية بحته مثل اتحاد الصناعات المصرية والبنك الأهلى الذى كان يقوم فى جانب من نشاطه بدور البنك المركزى بالنسبه للاقتصاد المصري. كانت مصر تتكون فى أواخر الأربعينيات من 19 مليون مواطن، منهم 15 مليونا يسكنون فى الريف ويعملون بالزراعة كملاك صغار للأرض الزراعية أو مستأجرين أو فلاحين معدمين وعمال تراحيل، وقد تناول تقرير اتحاد الصناعات المصرية 1952 – 1953 وتقرير البنك الأهلى 1951-1952 الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى مصر أواخر الأربعينيات وعرض هذان التقريران وغيرهما الأسباب الرئيسية لأزمة الاقتصاد المصرى باعتباره اقتصادا راكدا ومتخلفا عاجزا عن النمو وعن بناء صناعة وطنية قابلة للنمو فى مجتمع طبقى مغلق لا يستطيع أى إنسان فيه أن يتجاوز حدود طبقته فأبناء الفلاحين يصبحون فلاحين مثلهم كذلك أبناء العمال وأبناء الطبقة الوسطي. وفيما يلى نجمل أهم الأسباب الرئيسية من وجهة نظر رأسمالية لركود الاقتصاد والوضع الطبقى البائس للمجتمع المصري: أولا: سوء توزيع ملكية الأراضى الزراعية: حيث كانت الغالبية العظمى من هذه الأراضى مملوكة لبضع مئات من كبار ملاكى الأراضى الزراعية (الإقطاعيين) الذين كان الواحد منهم يمتلك ما بين مئات وآلاف الأفدنة ويسيطرون على الأرض الزراعية وعلى العاملين فيها حيث كانوا يستنزفون معظم الدخل من الإنتاج الزراعى ويحولونه إلى حساباتهم فى أوروبا وأمريكا دون استثماره فى الصناعة أو تطوير الزراعة التى كانت تتم بأدوات بدائية ولا يتركون لصغار المستأجرين والعمال الزراعيين وهم الغالبية العظمى من الشعب المصرى أى فائض مما أدى إلى ضعف القوة الشرائية فى مصر، الأمر الذى يحول دون تطور الصناعة المصرية التى لا تجد السوق القادر على استيعاب إنتاجها وعلى التوسع فى الصناعة لزيادة هذا الإنتاج. ثانيا: لعبت الاحتكارات الرأسمالية الأجنبية والمصرية دورا فى تكريس هذه الحقيقة فقد كانت شركات البترول الاحتكارية الأجنبية تتعمد تقليل إنتاج البترول وكانت شركة السكر التى تحتكر إنتاجه وشركات الأسمنت الاحتكارية تبيع إنتاجها بأسعار احتكارية وتوقف إنتاجها عند الكميات التى تفرض هذه الأسعار الاحتكارية على السوق ورغم أن الرأسمالية المصرية كانت حديثة العهد فإنها بلغت فى بعض قطاعاتها مرحلة الاحتكار مما سمح لها بالسيطرة على الكميات المنتجة وعلى الأسعار الاحتكارية وكان هذا الاحتكار مسئولا عن عدم تجدد الصناعة المصرية وتطورها وعن ضيق السوق المحلى وانكماشه وبالتالى تخلف وركود الاقتصاد المصري. ثالثا: أسهم أيضا فى تكريس هذا الوضع لأزمة الصناعة المصرية وتخلف الاقتصاد المصرى سيطرة الدولة الاستعمارية إنجلترا على التجارة الخارجية لمصر حيث تستورد منها القطن المحصول الرئيسى للبلاد بأسعار احتكارية وتبيع لها مستلزمات الصناعة بأسعار احتكارية أيضا ولم يكن هناك إلا أحد حلين أولهما التخلص من هذه السيطرة الاستعمارية الاقتصادية أو الانكماش الاقتصادى والصناعى والإفلاس نتيجة ضيق السوق المحلى وانكماشه. من هنا أصبح حتما لتطور الصناعة المصرية والاقتصاد المصرى القضاء على القيود التى تربطه بالدولة المستعمرة وإعادة توزيع ملكية الأرض الزراعية على قطاع أوسع من السكان الأمر الذى سيؤدى إلى توافر السيولة المالية لدى غالبية السكان وزيادة القدرة الشرائية لدى هذه الأغلبية مما يمكنها من شراء المنتجات الصناعية الأمر الذى يسمح بنمو الصناعة وتجاوز الاقتصاد المصرى تخلفه وركوده وهذا هو ما فعلته ثورة 23 يوليو عندما قامت بمجموعة من الإجراءات الإصلاحية التى أنهت هذه الظواهر وفتحت الباب أمام الانتقال بالاقتصاد والمجتمع لمرحلة أكثر تطورا, وقامت بعملية تغيير جذرى للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لصالح قطاعات أوسع من المواطنين فتحت الباب أمام الانتقال بمصر إلى اقتصاد نامى تلعب فيه الصناعة دورا مهما وأهم هذه الإجراءات هى الإصلاح الزراعى الذى أدى إلى زيادة القدرة الشرائية لسكان الريف ومنع الفصل التعسفى للعمال والتوسع فى التصنيع ومجانية التعليم والتخلص من الاستعمار، مما أدى إلى سيولة طبقية فتحت الباب أمام الملايين للانتقال من الطبقات الدنيا إلى طبقات أعلي. وللقارئ أن يحكم أيهما كان أفضل لمصر العهد الملكى أم ثورة يوليو؟!. لمزيد من مقالات عبدالغفار شكر