يجدر بداءةً تأكيد أمرين: أولهما أنَّ الزى حقٌ من حقوق الإنسان، يمارسُه فى إطار جميع الحقوق الأخرى، وذلك بشرط عدم إساءة استعمال هذا الحق أو تعديه على حق أولى بالرعاية. أما الأمر الثانى فهو أنَّ النقاب هو عادة لا علاقة لها بالدين الإسلامى كما صرَّح بذلك سابقًا فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، وكذلك فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب الذى أعلن صراحة أن النقاب ليس فرضا أو سنة، ولا ثواب أو عقاب على ارتدائه. وقد أثبت علماء الأنثروبولوجيا أنَّ الزى هو ابن البيئة وما تحوى هذه البيئة من عادات وتقاليد ومناخ، ويضيف إلى ذلك العالم الجليل الأستاذ الدكتور إبراهيم البحراوي، أستاذ التاريخ العبري، أنَّ النقاب ليس فى حقيقته سوى عادة قديمة من عادات بنى إسرائيل. من المسلَّمات فى مجال حقوق الإنسان وجوب عدم إهدار حقٍ لصيقٍ بالإنسان من حقوق المرتبة الأولى كالحق فى الحياة وفى الأمن فى سبيل تحقيق حق يَقِلُ عنه أهمية ومرتبة. من الثابت أنَّ حق الإنسان فى حياة آمنة مُقدَّمٌ على جميع الحقوق الأخرى، إذ إنَّ هذه الحقوق نابعةٌ من وجود الإنسان على قيد الحياة. ومن المفارقات عند التأمل فى مسلك الدول السبّاقة فى مجال حقوق الإنسان مثل دولة الدنمارك، أنَّ هذه الدول كانت تتمسك فى بادئ الأمر وحتى وقت قريب بأنَّ حق المرأة فى اختيار زيِّها هو حقٌ شخصى لا يجوز المساس به. غير أنَّ هذه الدول نفسها أصبحت تتجه اليوم نحو إصدار تشريعات تُحرِّم ارتداء النقاب فى الحياة العامة داخل إقليمها، وملاحقة من يرتديه جنائيًا، وذلك تأسيسًا على ما ثبت من خطورة التخفى وراء النقاب من خطر على الأمن العام، بل وتعطيل لمصالح الدولة نظرًا لأنَّه ليس فى الإمكان التعرفُ على الشخص المتنكر خلف النقاب واكتشافُ هويته للتأكد من عدم خطورته. هذا فضلاً عن صعوبة، إن لم تكن استحالة، قيام المتخفى خلف النقاب بالتعامل مع الجمهور وأداء مهامه كما هو الحال فى مجال التعليم بكل درجاته أو الرعاية الطبية والمهام ذات الصلة بمصالح الجمهور. وإذا كانت العديد من الدول فى سبيلها لإصدار التشريعات اللازمة لحماية مجتمعاتها من خطر النقاب فإنَّ الأجدر بمصر المبادرة بإصدار تشريع من مجلس النوَّاب يُحرِّم ارتداء النقاب فى الحياة العامة وفى الشارع المصرى وكذلك فى المؤسسات التى تتولى أمور المواطنين وتحتوى على الوثائق الرسمية المتصلة بحياتهم. وقد سبق أن قامت إحدى عضوات مجلس النواب، وهى العالمة الجليلة آمنة نُصير خلال دورة سابقة للمجلس بالتقدم بمشروع لتحريم النقاب، غير أنَّ هذا المشروع ظل طى الكتمان ولعلَّه قد لاقى حتفه لأسباب ليست بالخفية. ومن الأمثلة التى تؤكد ضرورة حظر ارتداء النقاب ما تم اكتشافه منذ عدة سنوات من ارتداء بعض الشباب لهذا الزى داخل الحرم الجامعى للطالبات بجامعة الأزهر، مما اضطر المجلس الأعلى للأزهر آنذاك إلى حظر ارتداء النقاب فى قاعات الدراسة ومساكن الطالبات. كذلك قام وزير التعليم العالى الأسبق الدكتور هانى هلال بإصدار عدة قرارات بمنع ارتداء النقاب فى الجامعات ومنع من يرتدينه من دخول المدن الجامعية ولجان الامتحانات، على أثر ضبط خمسة عشر شابًا متخفين وراء النقاب داخل المدن الجامعة للطالبات، غير أنَّ محكمة القضاء الإدارى حكمت بإلغاء هذه القرارات بناء على طعن رُفع إليها من فريق من المنتقبات. كذلك من الأمثلة المهمة العالقة بالأذهان القرار الصادران عن رئيس جامعة القاهرة السابق الأستاذ الدكتور جابر نصَّار: الأول فى شهر أكتوبر من عام 2015، بمنع ارتداء كل القائمات بالتدريس للنقاب، والثانى فى سبتمبر 2016 بمنع جميع العاملين بمستشفيات جامعة القاهرة من أطباء وممرضات من ارتداء النقاب. ولما تمَّ الطعن فى قرار رئيس الجامعة بشأن القائمات بالتدريس، رفض القضاء الإدارى هذا الطعن داعمًا بذلك قرار رئيس جامعة القاهرة. وليس بخافٍ ما يُعانيه المجتمع المصرى من تدهور أخلاقى لا يعانيه فقط الشارعُ المصرى والأماكن العامة بل امتدَّ ليشمل حياة المواطنين الخاصة وأمنهم داخل ديارهم. وليس ببعيدٍ الحدثُ القبيح الذى تضرَّر منه المجتمع المصرى بأسره والذى يتلخصُ فى قيام رجل بالتنكر فى زى امرأة منتقبة وذلك للمعيشة داخل منزل للزوجية زاعمًا أنَّه امرأة قربية للزوجة جاءت لتقيم معها ولا يجوز خلع نقابها أمام الزوج. كذلك فإنَّ ارتداء النقاب يُسَهِّلُ عمليات السرقة وإخفاء المسروق داخل الزى الفضفاض، من ذلك قيام أحد اللصوص بالتنكر وراء النقاب بمركز الداخلة، بمحافظة الوادى الجديد لسرقة قطع من الآثار، وتم ضبطه وأعوانه. من الجليّ أن الأمر يَمَسُّ حياة المجتمع بأسره، ولا مجال لتركه لكل مؤسسة من مؤسسات الدولة لتتخذ على حدة ما يعِّنُ لها من قرار مما يؤدى إلى خلق جُزُرٍ منعزلة داخل المجتمع. كذلك من عدم الإنصاف ترك رئيس أى مؤسسة يتحمل وحده اتخاذ قرار فى مثل تلك القضية المجتمعية كما فعل رئيس جامعة القاهرة الذى تعرض للكثير من التهديدات، بل للتحدى من وزير التعليم العالي. لذلك يتعين إصدار تشريع واضح المعالم لمنع ارتداء النقاب الذى جعل من الشارع المصرى بأسره مكانًا غير آمن للمجتمع وخاصة النساء والأطفال المهددين سواء بالتحرش البذىء والمهين للسيدات، أو اختطاف الأطفال من رجال اتخذوا من النقاب ستارًا لجرائمهم. ولعل المشروع المُقدَّم من العالمة الجليلة آمنة نصير كفيلٌ بتحقيق الهدف المقصود المتمثل فى تأمين الحياة بالمجتمع المصري. ويجدرُ إشراك أفراد المجتمع فى مناقشة مثل هذا المشروع وعلى رأسهم أهل الفكر والاستنارة. لا خلاف حول أنَّ حرية الإنسان فى اختيار ملبسه تشكل حقًا من حقوق الإنسان، غير أنَّه يلزم فى هذا المجال الحرص على ترتيب الأولويات. وغنيٌ عن البيان أنَّ حق الإنسان فى حياة آمنة يَسبِقُ بل يَجُبُّ أى حق آخر يتعارض معه. وقد أصبح من المؤكد أنّ ارتداء زى مثل النقاب أو ما يماثله من أقنعة للوجه فى الحياة العامة يُشكل عدوانًا على هذا الحق. لمزيد من مقالات ◀ د. فؤاد عبد المنعم رياض