معظم ما يتم تداوله من المصطلحات السياسية ذات العلاقة بأنماط الدول سواء من خلال الميديا أو الطبقات السياسية يعانى الالتباس مما يضاعف من عوامل سوء الفهم وهناك مراحل فى حياة الشعوب لا تقبل الحرق لأنها مرتبطة عضويا وبنيويا بثقافات وأعراف وأنماط انتاج اقتصادية، وليست خيارات نظرية خالصة، وحين تصنف النظم السياسية السائدة بين ثيوقراطى واوتوقراطى وعلمانى فالمسألة ليست مساحات تحددها ألوان مختلفة، وقد لا تكون الدولة ذاتها مؤهلة لتصنيف نفسها لأن عوامل تشكلها فرضها التاريخ من جهة وحددت إطارها الجغرافيا التى توجه التاريخ أحيانا، ورغم كل ما نسمعه من سجالات سياسية، وما تمتلئ به الجامعات من مراكز أبحاث، لم نر أحدا يبادر الى فك الاشتباك بين المصطلحات ووضعها فى سياقاتها التاريخية والعضوية، وعلى سبيل المثال فإن الدولة الثيوقراطية ليست مفهوما مجردا ولابد لفهمها من العودة إلى نماذجها فى التاريخ، وقد يكون المثال الفلورنسى الذى جسد الثيوقراطية هو فترة حكم جيرو لامو سافو نارولا الراهب الدومينيكى حيث أحرقت كل الكتب غير المسيحية فى عهده ودمرت التماثيل وكل ما له علاقة بالشعر والفنون. وتركيبة مصطلح الثيوقراطية بحد ذاته تكفى لتعريفه الدقيق، فهم حكم الاله، لكن من خلال من يمثلونه على الأرض، فهم معصومون، لا يحق لأى كائن ان ينتقدهم فى شيء فالحق هو كما يرونه وكذلك الباطل، وحين يكون الحكم مغلقا على هذا النحو والقانون فيه يخضع للميثولوجيا تتحول المجتمعات الى كتل ديمغرافية صماء، ورغم ان ما طرأ على هذا الكوكب من متغيرات جذرية او ما يسمى انقلابات كوبرنيكية، الا أن الدولة الثيوقراطية كنموذج ومفهوم لم يعد سهلا وجودها إلا ان تجلياتها وتمدداتها فى النسيج الاجتماعى تبقى ممكنة ومتناسبة طرديا مع تخلف الوعى وعدم بلوغ درجة الاستحقاق التى تحرر الانسان من كل ما يحاصره ويجعل من حريته أمرا أقرب الى المستحيل، ومن يضعون الدولة العلمانية وفق تعريفاتها الملتبسة نقيضا تاما للدين ومرادفا للإلحاد يفكرون بمعزل عن الواقع، ويتجاهلون ان دول الغرب العلمانية لا تنبذ المتدين، أو ترى فى الكنيسة ما يهددها، لأن العلمانية فى النهاية هى إفراز منجزات تاريخية واجتماعية مُتعايشة، لكن من مصلحة الذين تهدد العلمانية امتيازاتهم تقديمها على هذا النحو، وهناك فى عالمنا دول مجازية تملك من حيث الشكل كل مقومات الدولة لكنها فى الحقيقة تعيش ما قبل الدولة لأن نسيجها قبلى وتورث كما تورث أية أملاك، لهذا السبب لم يحدث قبل هذا العصر أن صدرت كتب عن الدولة من طراز الدولة الفاشلة وانتحار دولة، لأن تشكل الدول فى هذا العصر لم يعد بتلك الصعوبة التى شهدت ولادات عسيرة لدول رسخت قواعدها وأنجزت قدرا من المأسسة، وكان علينا أن نعيد تعريف الدولة والفقه السياسى برمته كى نتفق على ان جمهوريات الموز دول حقيقية خصوصا بعد الغاء أهم مظهر للدولة وهو السيادة والاستقلال. لقد تم حذف مفهوم السيادة منذ أعطت الدول الكبرى لنفسها الحق فى التدخل وقد يكون ذلك قد تجسد على نحو صريح فى عبارة الرئيس الامريكى روزفلت عام 1906 حين قال ان أمريكا هى شرطى العالم، وقد يتساءل البعض باندهاش عن وجود دول ثيوقراطية فى القرن الحادى والعشرين لكن دهشته تزول اذا عرف ان ما ظن البشر انهم ودعوه من عصور الرق والاستبداد الفاحش حمل اسماء جديدة ولم يصبح خارج التاريخ، واذا كان النقيض الحقيقى للديمقراطية هو الديمقراطية الزائفة وليس الديكتاتورية فإن نقيض الدولة المستكملة لمقوماتها والتى تعترف بحقوق الانسان وتتعامل مع مواطنين وليس مع رعايا، هى الدولة الثيوقراطية التى ترتدى اقنعة مزخرفة وتوظف الميديا سواء كانت مصنوعة او مأجورة للتمويه، لكن سرعان ما تنقشع الخديعة ويظهر ان ما يراه الناس فى هجير ظهيرتهم هو سراب وليس ماء، وحين تكون هناك مقاربات فى الاعلام العربى تتحدث عن ثنائية النظام السياسى والشعوب تكون هناك افتراضات خاطئة تؤدى الى أخطاء كارثية فى الاستنتاجات، فما من شيء اسمه النظام السياسى العربى مقابل غياب الشفافية، لأن النظم القائمة غير مجانسة على الاطلاق اللهم إلا اذا كان الاستبداد هو القاسم المشترك المقصود بينها، فهذه النظم منذ تأسيسها وولادتها القيصرية خضعت لأنماط الدولة التى استعمرتها أو انتدبتها لأن الاستعمار الفرانكفونى فرض مناخه على الاقطار التى حكمها وتحكم بها زمنا، وكذلك الاستعمار الانجلوساكسوني، لهذا نجد أن هذا الاختلاف انعكس على الثقافة والتعليم وحتى المصطلحات المتداولة، وقد لاحظت أن الندوات الفكرية التى يشارك بها عرب من المشرق والمغرب تعانى اختلاف الدلالات بسبب اللغة، وقد لا يتطابق ما هو فرانكفونى مع ما هو انجلوساكسوني، وحين يثار سجال حول تديين الدولة أو علمنتها فى العالم العربى تكون الأمثلة محور السجال مأخوذة من الثقافتين بحيث يشعر المراقب أن المختلفين هم أصحاب تلك اللغات والمناهج وليس العرب. ولاحظت ذلك بوضوح عندما عقدت ندوة فى الرباط عن المبدع الكبير نجيب محفوظ وبمناسبة فوزه بجائزة نوبل، فبعد حوار استغرق نصف ساعة بين جبرا ابراهيم جبرا وهو ذو مرجعية انجلوساكسونية وبين أكاديمى مغربى ذى مرجعية فرانكفونية، أن الحوار لا علاقة له بنجيب محفوظ بل بدلالات المصطلحات المختلفة، وبالعودة إلى تصنيف النظم السياسية فإن الرغائب وحدها لا تكفى وأن تبرير وتمرير بعض المواقف لن تكون لهما جدوى على المدى البعيد، لأن التاريخ كالقانون لا يخدع ولا يرحم الجاهلين به، والدول التى تصنف على أنها ثيوقراطية هى فى حقيقتها أطلال ثيوقراطية ولا يوجد فيها ما هو قابل للاستمرار من عناصر الدولة الثيوقراطية القديمة!. لمزيد من مقالات خيرى منصور