غالبا ما يكون تصنيف الدُّول ونُظُم الحكم بين الباترياركية والاوتوقراطية والثيوقراطية محتكما الى معايير تقليدية ولا يرى من جبل الجليد الغاطس في التاريخ وليس في البحر غير السّطح الناتىء منه ، فثمة دول توصف بالباترياركية او النظام الأبوي تفترس أبناءها وتسطو على عرقهم وجهدهم دون أن تتخلى عن حق الوصاية، وهذا النمط من الباترياركية كما وصفه الروائي الكولومبي ماركيز بشكل آسر في رواية خريف الباتريارك تليق به النظرية السايكولوجية عن جريمة قتل الأب ولكن على نحو معكوس هذه المرة، فمن يتعرّض للقتل هم الأبناء لكن الالتباس الأشدّ هو حول ما يسمى الدولة الثيوقراطية او الدينية التي مملكتها ليست من هذه الأرض كما يقول السيد المسيح، والحقيقة ان الدولة الثيوقراطية او ذات القناع الديني قد تكون اشدّ براغماتية وذرائعية من أية دولة اخرى لأنها معنية اولا بادامة وجودها والدين بالنسبة اليها وسيلة واحيانا مُطية وليس غاية، وفي عصرنا غالبا ما تكون الدولة الايرانية محور مثل هذا السجال، فهي في ظاهرها ثيوقراطية وذات مرجعية دينية محددة لكنها حين مرّت بحلقات فرضت عليها ان تكون أرضية، وتلجأ الى المقايضات السياسية لم تتردد في ذلك، وقد تكون تجربة محمد خاتمي هي الأبرز في هذا السياق، فالرجل اضافة الى اطروحاته المرنة التي قدمها في كتابين على الأقل، خرج من العباءة الثيوقراطية ليفاوض بريطانيا وتنتهي احدى الصفقات بالتخلي عن هدر دم الروائي سلمان رشدي رغم ان هدر دمه كان بفتوى من الامام الخميني، وقد اتاحت لي ندوة عقدت حول المفكر المارتينيكي د . فرانز فانون الذي لعب دورا مشهودا في الثورة الجزائرية وكان من ابرز منظريها ان ألتقي د. احسان شريعتي استاذ الفلسفة وابن المفكر الايراني الراحل علي شريعتي الذي غاب في نهايات السبعينيات من القرن الماضي في ظروف غامضة، ورغم معرفتي بالبعد الايديولوجي الذي استغرق الراحل شريعتي وكان من اقرب اصدقاء فانون الا ان د . احسان كان مرنا الى الحدّ الذي اتاح لي ان اثير سؤال الدولة الثيوقراطية، من خلال نموذجين مختلفين وربما كانا على طرفي نقيض، الأول هو محمد خاتمي الأمْيَل الى الانفتاح والحداثة والثاني احمد نجادي الذي ظلّ وفيّا لتعاليم الدولة الثيوقراطية، وكان في تلك الأيام قد أصدر تصريحات منها نفي الهولوكوست، ولم أكن معنيا بذلك الا بالقدر الذي أثّرَت فيه تلك التصريحات على مثقفين اوروبيين والفرنسيين منهم بخاصة، فقد قال لي أحدهم : كلّما اوشكنا في اوروبا ان نتحرر من الابتزاز الصهيوني ونغادر الذاكرة الآثمة التي طالما عزفت اسرائيل على اوتارها ظهر في العالم الاسلامي رجل من هذا الطراز، يجدد صلاحية الهولوكوست في حين يظن انه ينفيه، واعود الى حواري مع د . احسان شريعتي حول الدور الذي انتظره العرب من ايران، وهو دور تصعب مناقشته في هذه العجالة، لكن د . احسان وافقني على ان طهران كان امامها ان تصوغ علاقات مع جيرانها العرب غير تلك التي انتهت الى حرب دامت ثماني سنوات . وهذه مناسبة للاعتراف بأن المتابعات العربية للسياسة الايرانية اقتصرت على السياسة وحدها وعلى ما يصدر عن آيات الله وقُم، اما الجانب الفكري فقد ظلّ مهمّشا، لهذا لم تحظَ اطروحات مفكر ايراني بارزويكتب بالفرنسية هو داريوش شايغان بالاهتمام الكافي، فهو ناقد محترف للايديولوجيا اساسا، وله رؤى حول اعاقة التحديث في العالم الاسلامي، خصوصا في كتابه القيّم « ما الثورة الدينية «، فهو يكتب منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي عمّا يسميه افيون الايديولوجيا حين تتحول الى شرّ محض، وخلاصة اطروحاته ان الغرب لم يعد غربا والشرق لم يعد شرقا بمعنى ان العرب تخلى عن مكونه الفلسفي وعقلانيته والشرق لم يعد دينيا كما يدّعي، من هنا كان نقده لعلي شريعتي الذي استغرقته الايديولوجيا بحيث اصبحت مقابل الثقافة . ان الدولة الثيوقراطية او السّاعية الى هذه الصفة لن يكون المستقبل حليفها لأن الانغلاق الايديولوجي يؤدي بالضرورة الى احتكار الصواب المطلق وبالتالي اقصاء الآخر وتخطئته او شيطنته . بالطبع ستبدو كل المقاربات حول شكل الدولة سواء كانت من هذا الطراز او سواه قاصرة اذا حذف منها نمط الانتاج السائد فيها والمترسب من موروثها خصوصا اذا كانت تمتد بعيدا في التاريخ، فالدولة الثيوقراطية هي مشروع حرب دائمة، وكان هناك عدوان أبديان احدهما ديني والآخر دنيوي، لكن الحقيقة ليست بهذه الثنائية المانوية الحاسمة بحيث ينقسم التاريخ الى شرّ محض وخير خالص، وان كان للكشوفات العلمية فيما يتعلّق بالانسان من اهمية كبرى فهي تحريره من الثنائيات وانتقاله الى عصر تكون جدلية الفكر هي الخلاص، لأنها تدشن حوارا متكافئا وتحرر البشر من ارتهانات ايديولوجية، فأقسى حروب عرفها التاريخ هي الحروب الدينية، او هذا على الاقل ما يقوله واحد من ابرز مؤرخي العالم وهو ويل ديورانت، لأنها حروب عمياء بحيث يكون الحكم على البشر بالجملة وكأنهم مجرّد قطعان !. ولدينا في موروث النهضة العربية في القرن التاسع رغم تعثره او كما وصفه د . رفعت السعيد تسلل من ثقب ابرة نموذج يستحق اعادة الاستقراء وليس القراءة الأفقية فقط، فقد يبدو كتاب مثل طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي صدر قبل قرن كما لو انه كتب في هذه الايام، فهل قدرنا ان نعود كل قرن الى اول السّطر ؟ سواء تعلّق الامر بنهضة مجهضة او اتفاقية كولونيالية من طراز سايكس بيكو، ان ما ظننا اننا ودعناه عند البوابات يتسلل الآن من النوافذ ومن صدوع الجدران التي خلخلها الزلزال التاريخي وعصف تضاريس جغرافياها السياسية . لمزيد من مقالات خيرى منصور