التخطيط الحضاري ينبغي أن يكو ن مكونا رئيسيا من مكونات أي مشروع نهضوي سواء كان عربيا أم عالميا. وإذا كان مركز دراسات الوحدة العربية0 قد نشر وثيقة مهمة هي نتاج فكر عشرات الباحثين العرب بعنوان المشروع النهضوي العربي عرضنا له عدة مرات, فإن في العالم وإن كان بشكل غير معلن ملامح تبلور مشروع نهضوي عالمي. وهناك مؤشرات متعددة علي صعود حركة فكرية يسهم فيها مفكرون وفلاسفة من دول شتي تحاول بعد نهاية عصر الحرب الباردة علي وجه الخصوص وإنهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الصراع الايديولوجي العنيف بين الشيوعية والرأسمالية أن ترسم ملامح عالم جديد يقوم علي التعاون وليس علي الصراع, وتسوده اتجاهات التسامح بدلا من العداء, وقبول الآخر عوضا عن رفضه وعدم الاعتداد بخصوصيته الثقافية. غير أن هذا العالم الجديد الذي شرع عديد من المفكرين والمؤسسات الدولية والمراكز البحثية في رسم ملامحه الأساسية سرعان مااصطدم مبكرا بنظرية صراع الحضارات التي أطلقها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون. وقد سبق لنا في تحليلنا لأسباب ظهور هذه النظرية علي المسرح الفكري العالمي ان قررنا أن انهيار الاتحاد السوفيتي المدوي ونهاية الصراع التاريخي بين الشيوعية والرأسمالية ترك فراغا ايديولوجيا كبيرا في المناخ السياسي الأمريكي الذي تعود فيه الزعماء الأمريكيون علي مناطحة أعداء حقيقيين أو متخيلين ولاشك أن غياب العدو الشيوعي قد تسبب في أزمة كبري لقادة الولاياتالمتحدةالأمريكية لأنه كيف يمكن لأمريكا أن تعيش بغير عدو ؟ إن عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية في المجتمع الأمريكي وعديد من المجتمعات الغربية الرأسمالية الأخري كانت تقوم علي أساس العداء للشيوعية والمناصرة الكاملة للافكار الرأسمالية. بل إن حلف الأطلنطي الذي سبق أن قام في مواجهة حلف وارسو جابه مشكلة حقيقته لأن حلف الأعداء سقط وأصبح هو حلفا غير ذي موضوع! ولذلك عكف قادة الحلف ثلاث سنوات علي الأقل في محاولات مستميتة لابتداع وظائف جديدة لهذا الحلف الذي اختفي من الوجود عدوه الرئيسي ونقصد دولة الاتحاد السوفيتي! روج هنتنجتون مفكر المؤسسة الأمريكية لنظرية صراع الحضارات وزعم أن عصر الحروب الثقافية قد بدأ, ومعني ذلك ان الحضارة الغربية في خطر, لأنها ستدخل في صراع حتمي مع الحضارة الاسلامية والحضارة الكونفوشيسية. ولا يغيب عن الذهن ان اختيار الحضارة الاسلامية يجد مبرره عند صاحب النظرية في بروز الصحوة الاسلامية علي مستوي العالم مما قد يؤثر سلبا علي السياسات الأمريكية الامبريالية التي تريد أن تهيمن علي العالم وتحكمه بصورة منفردة, كما ان اختيار الحضارة الكونفوشيسية يرجع الي صعود الصين في سلم المكانات العالمية الأخري اقتصادا وحضارة مما يهدد الولاياتالمتحدةالأمريكية. ودار جدل عالمي واسع حول نظرية صراع الحضارات, وانتقد عديد من المفكرين في الغرب والشرق علي السواء مسلماتها وفندوا تنبؤاتها, بل واتهم صاحب النظرية نفسه بالعنصرية لأنه ينظر في الواقع نظرة دونية للحضارات غير الغربية. كان صعود نظرية صراع الحضارات أشبه بالأطروحة الأساسية في سياق السعي لتخطيط حضاري عالمي جديد غير أن الرئيس محمد خاتمي رئيس جمهورية إيران الإسلامية السابق قدم أطروحة مضادة لأطروحة هنتنجتون وهي ضرورة الحوار بين الثقافات لا الصراع بين الحضارات. وقد أطلق خاتمي أطروحته في خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام1999 والتي دعا فيها لتحويل حوار الحضارات من مجرد فكرة يتداولها الفلاسفة والمؤرخون والعلماء الاجتماعيون الي سياسة ثقافية عالمية تتبناها الأممالمتحدة. ومما لاشك فيه أن هذه المبادرة الإيرانية الجسورة في توقيت مناسب علي الصعيد الدولي, لأنها قطعت الطريق فعلا علي موجة العنصرية الغربيةالجديدة. وقد لاقت أطروحة خاتمي عن حوار الثقافات قبولا منقطع النظير, بحيث تمت الموافقة علي المبادرة بالاجماع وصدر قرار لا سابقة له بأن يكون عام2001 هو عام حوار الثقافات حيث تنشط الدول والمنتديات الثقافية الرسمية والأهلية لعقد مؤتمرات لمناقشة الموضوع. وفي هذا السياق دعت هيئة اليونسكو الي مؤتمر دولي كبير عن حوار الحضارات نعقد في فيلنوس عاصمة ليتوانيا في الفترة من23 الي27 ابريل2001. وقد دعيت لهذا المؤتمر لأقدم بحثا عن التعريفات المختلفة للحضارة. وقد ركزت علي المعني الأساسي للحضارة وهي تعني النظرة للمجتمع بكل مكوناته التي تكفل له البقاء. وينبغي أن يلاحظ أنه في أي دراسة لمجتمع محدد فإن المجتمع المركب عادة مايتضمن انساقا سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية. يصدق ذلك علي المجتمع العربي ككل أو أي مجتمع قطري كما يصدق تماما علي المجتمع العالمي الذي ينبغي أن تدرس أنساقه جميعا بشكل كامل. وتطور الابداع الفكري في مجال التخطيط الحضاري العالمي والذي تشارك فيه دول شتي ومفكرون من جميع الأقطار لكي ينتقل العالم من أطروحة صراع الحضارات الي الأطروحة المضادة, وهي حوار الثقافات لكي يستقر أخيرا علي الأطروحتين الثالثة والتي هي التركيب بين الأطروحتين الأولي والثانية لتصل الي نظرية تحالف الحضارات! ومعني ذلك أن التخطيط الحضاري العالمي تتمثل مسيرته في ثلاث لحظات تاريخية فارقة هي الصراع والحوار والتحالف! وتحالف الحضارات مبادرة أعلنها كل من جوزيه لويس ثاباتيرو رئيس وزراء أسبانيا, ورجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا وذلك في الاجتماع التاسع والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام2005, وتسعي المبادرة الي تفعيل الجهود الدولية لمواجهة التطرف وذلك بممارسة حوارات ثقافية عالمية, وكذلك حوارات بين الأديان, والهدف الرئيسي للمبادرة هو إذابة التوترات بين العالم الغربي والعالم الاسلامي. لقد قامت مبادرة التحالف بين الحضارات في سياق يسوده الشك المتبادل والخوف وسوء الفهم بين المجتمعات الاسلامية والغربية وهذه الظواهر برزت منذ بداية الألفية الجديدة. وقد استغل المتطرفون صعوبات التعايش بين المجتمع الغربي والمجتمع الاسلامي لكي يعيثوا في الأرض فسادا, ويوجهوا ضرباتهم الارهابية ضد دولهم أولا في العالم العربي والاسلامي ثم في مرحلة تالية ضد الدول الغربية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد تكون الحوادث الارهابية التي وجهت الي مراكز القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأمريكية في11/9 نموذجا بارزا لهذا التوتر الحاد بين العالم الاسلامي والمجتمع الغربي. ومن هنا يمكن القول إن مبادرة حوار الحضارات جاءت في وقتها لتدعو في إطار التخطيط الحضاري العالمي لقيم إنسانية جديدة أبرزها الدبلوماسية لحل الصراعات الدولية بدلا من الحرب, والتسامح بدلا من العداء مع الآخر, واحترام الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع, من خلال سياسات تعليمية وإعلامية وثقافية شاملة تنبع من أفكار المذهب الانساني( الهيومانزم) والتي تقوم علي فكرة محورية هي أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان بغض النظر عن الاختلاف في الجنس واللون والدين والثقافة!