أكدنا من قبل أن المشروع النهضوي العربي يحتاج في النظرية والتطبيق الي تخطيط حضاري متكامل, بحيث يصبح تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية وغيرها من المكونات. مجرد مفردات في هذا التخطيط الحضاري, ويمكن القول إن التخطيط الحضاري العربي يحتاج أولا إلي معرفة وثيقة بالتطورات العالمية خصوصا في أبعادها الثقافية. وقد سبق لنا أن نشرنا كتابين في هذا الصدد الأول منهما عنوانه: الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي( القاهرة2008) والثاني عنوانه: شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي الي العالم الافتراضي( القاهرة2009). وبناء علي دراساتنا السابقة يمكن لنا أن نؤكد أن العالم كله شرقه وغربه وليس الوطن العربي فقط, مشغول بالتخطيط الحضاري, لأن النخب السياسية الحاكمة مثلهم في ذلك مثل العلماء الاجتماعيين أصبحوا يدركون بشكل متزايد أن عصر العولمة قد قلب الموازين السياسية والاقتصادية والثقافية, وان هناك حاجة للمجتمعات المعاصرة حتي المتقدم منها اقتصاديا وتكنولوجيا الي تخطيط حضاري شامل, يعيد النظر في كل المسلمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي عاش العالم في ضوئها طوال القرن العشرين. وقد سبق لنا أن عبرنا عن هذه الفكرة المحورية في مقال لنا نشر في جريدة الأهرام يوم14 فبراير1994 بعنوان نحن والغرب في انتظار الثورة الفكرية, وكنا نقصد بالثورة الفكرية هذا التخطيط الحضاري الجديد, وقد قررنا فيه بعد تقييم الاجتهادات الفكرية في الشرق والغرب بهذا الصدد ان الحصاد البحثي مازال هزيلا, وان العالم كله في حاجة ماسة إلي ثورة فكرية تستطيع التعامل مع متغيرات العصر بطريقة أكثر كفاءة من الاجتهادات الجزئية التي تمت صياغتها حتي الآن. ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته الآن هو, ما هي أبرز التغيرات الكبري التي لحقت بإدراكات النخب السياسية الحاكمة والجماهير علي السواء فيما يتعلق بعديد من الظواهر العالمية ؟ أشار بعض الباحثين الي أن التدخل العسكري في المناطق المضطربة سينظر اليه باعتباره مخاطرة يستحسن تجنبها, ولن يكون هذا هو إدراك السياسيين فقط في البلاد الديمقراطية, ولكنه سيكون الإدراك السائد لدي قطاعات جماهيرية واسعة ليست مستعدة للتضحية بحياة أ فراد في القوات المسلحة, حتي لو كانت اعدادا محدودة. ويكشف عن صدق هذا التنبؤ الاتجاهات السلبية المتصاعدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ازاء التدخل العسكري في العراق وفي افغانستان, وذلك لأن سحابات التعتيم السياسي التي اطلقها صقور المحافظين الجدد في إدارة الرئيس السابق جورج بوش, والذي كان ألعوبة في أيدي مجرمي الحرب ممن خططوا لها ونفذوها بالمخالفة لقواعد الشرعية الدولية, وبالاعتداء الصارخ علي حقوق الشعوب في حياة آمنة كريمة, هذه السحابات تبددت وظهر للعالم كله أن اسلوب التدخل العسكري الهمجي باسم الدفاع عن المصالح القومية مذهب فاسد, اسقطته الخبرة الانسانية البصيرة. وفي ضوء هذا الاستنكار الجماهيري العالمي للمغامرات العسكرية, تراجعت دعوات صقور الحرب الأمريكية للهجوم علي إيران بدعوي خطورة مشاريعها الذرية علي أمن دولة إسرائيل!. كما تبددت شعارات الحرب التي رفعت في عهد بوش ضد كوريا الشمالية وغيرها من الدول المارقة, بتعبير الاستعماريين الأمريكيين الجدد!. مما لا شك فيه أن الرخاء الاقتصادي اصبح هو علامة الخير المعترف بها عالميا, ولكن مشكلته أنه لكي يتحقق لابد من توافر شروط متعددة, أهمها علي الإطلاق توافر شروط السلام الاجتماعي بين الدول في عالم تفوق فيه أعداد الفقراء بمئات الملايين اعداد الآمنين اقتصاديا. ويرد ذلك الي الاستغلال البشع الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة علي الدول النامية, من خلال السيطرة علي الأسواق والأسعار وتفوق التكنولوجيا, بالاضافة إلي فرض شروط بالغة الإجحاف في مجال التجارة والتبادل الاقتصادي بحكم هيمنة التجارة العالمية, خصوصا نصوص معاهدتها المتحيزة للدول الغنية علي حساب الدول الفقيرة. ولعل أبرز ما يحتاج إلي فكر إبداعي أصيل هو تقنين ضوابط حق التدخل, سواء لأسباب تتعلق بالأمن الدولي أو لأسباب انسانية غير أن هذا يحتاج ابتداء الي إعادة صياغة كاملة لنظرية الأمن القومي, لتصبح نظرية الأمن الانساني الذي يتجاوز الحدود الضيقة لمفاهيم المصلحة الوطنية. وتجدر الإشارة إلي أن مفهوم الأمن الانساني الذي بادرت اليابان علي وجه الخصوص إلي صياغته, اصبح الآن مبدأ اساسيا من مبادئ الأممالمتحدة. ويمكن القول إنه في الوقت الراهن هناك قائمة كاملة من المشكلات الملحة التي تحتاج إلي تفكير منهجي منظم لمواجهتها ومن أبرزها السياسات التعليمية. وقد لوحظ في كل البلاد زيادة الطلب علي التعليم في كل مراحله, وأصبحت هناك مشكلات تتعلق بعدم كفاية وعدم كفاءة المدرسين في عديد من البلاد, والحاجة الي استحداث طرق جديدة للتعليم, وقد اهتمت هيئة اليونسكو بهذا الموضوع اهتماما خاصا, وشكلت لجنة عن التعليم في القرن الحادي والعشرين أكدت فيه أن اتجاه المستقبل الذي سيسود في القرن الحادي والعشرين سيكون هو التعليم عن بعد, مما سيساعد علي انتشار هذا النوع المستحدث من التعليم الثورة الاتصالية الكبري, وظهور شبكة الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة. وتبدو أهمية تطوير التعليم عن بعد بالذات في الوطن العربي, حيث تتزايد أعداد التلاميذ والطلاب وتعجز المؤسسات التعليمية التقليدية عن سد حاجتهم لبرامج التعليم المتنوعة. ومما لا شك فيه أنه من بين المشكلات التي تستدعي حلولا إبداعية شاملة الهجرة بحكم العولمة التي تساعد علي سرعة تدفق المعلومات ورءوس الأموال والبشر من مكان الي مكان آخر, بغير قيود ولا حدود. وأسباب هذه الهجرة متعددة ولعل أهمها ضيق المجال أمام المهاجرين في بلادهم الأصلية وعجز سوق العمل عن استيعابهم نتيجة غياب خطط التنمية المستديمة, وشيوع الفاسد بين النخب السياسية الحاكمة, والفجوة الطبقية العميقة بين الاغنياء والفقراء في البلاد العربية والإسلامية مما يدفع بآلاف الشباب الي الهجرة إلي البلاد الأوروبية, وامتدت الدائرة لتصبح هجرة غير شرعية تؤدي إلي ضياع أرواح العشرات منهم ممن يستخدمون زوارق غير آمنة تتحطم علي شواطئ البلاد الأوروبية او يقبض عليهم ويرحلون الي بلادهم. غير أن أحد الاسباب العميقة للهجرة الي اوروبا علي وجه الخصوص هو انخفاض معدلات المواليد, وحاجة السوق إلي ايد عاملة رخيصة تعمل في المهن التي لا يقبل عليها أبناء البلاد الاصليين. وهذه البلاد الأوروبية تنازعها الحاجة الماسة إلي الايدي العاملة الرخيصة من المهاجرين من ناحية وعدم قبولهم ثقافيا من ناحية أخري لأنهم يتمسكون برموزهم الثقافية, ويرفضون الاندماج في الثقافة الأوروبية. ويدل علي ذلك المشكلات الخاصة, بمنع بناء المآذن في سويسرا, ومنع النقاب في بلجيكا وفرنسا. وهذا الموضوع بالذات يحتاج الي تخطيط حضاري بصير سواء في الوطن العربي أو في البلاد الأوروبية. في الوطن العربي لابد من سياسة ثقافية تنويرية تشرح للجماهير العربية والإسلامية أن المقاصد العليا للإسلام تعلو علي التركيز علي الحجاب او النقاب. كما ان التشبث بالنقاب في البلاد الاوروبية يعد سلوكا غير رشيد, لأنه يعكس عدم الاهتمام بالاندماج المطلوب في الإطار الثقافي الأوروبي, وهذا الأطار يرحب بالحرية الشخصية بدون رموز غريبة علي الثقافة السائدة. ومن هذا فالتخطيط الحضاري في الوطن العربي يستلزم صياغة سياسة ثقافية, تشارك في تنفيدها وزارات التعليم والاعلام والثقافة للدعوة الي مذهب إسلامي وسطي ينعكس في القيم والاتجاهات والسلوك والملبس, بعيدا عن اتجاهات وعادات فات أوانها وتخطاها الزمن. ومن ناحية أخري تحتاج الدول الأوروبية الي تخطيط حضاري جديد, يتفهم الإسلام باعتباره دينا يحض علي التسامح ليس فيه نزعات عدوانية إزاء الآخر, بالرغم من شذوذ بعض الجماعات المتشددة الإسلامية التي لا تعبر عن جوهر الإسلام الحقيقي. وهكذا يمكن القول أن التخطيط الحضاري المطلوب سواء في الوطن العربي أو في الدول الأوروبية لابد أن يعتمد علي حوار الثقافات وليس صراع الحضارات. أصبح حوار الثقافات ضرورة للتعامل مع الآخر في ضوء الفهم العميق للثقافة الإسلامية والثقافة الأوروبية علي السواء. وإذا تركنا الجوانب الثقافية جانبا وولينا نظرنا للجوانب السياسية والاقتصادية ولقلنا إن التخطيط الحضاري لابد له أن يعيد النظر في نظرية الديمقراطية التي تقوم علي التمثيل; لأن اصحاب المصالح استطاعوا من خلال تمويل المرشحين السيطرة علي أعضاء المجالس النيابية, هذا بالنسبة للبلاد المتقدمة, أما بالنسبة للعالم العربي فلابد من مواجهة ظاهرة العجز الديمقراطي. وتبقي مسألة ضرورة مراجعة مبدأ حرية السوق الذي قدسته الرأسمالية المعاصرة إلي أن سقط في الأزمة العالمية الأخيرة, أصبح التخطيط الحضاري مطالبا بإعادة صياغة العلاقة بين واجبات الدولة وحرية السوق. تلك كانت مجرد أمثلة من ضرورة التخطيط الحضاري في عالم متغير!.