بمجرد أن تطيء قدماك أرض «المتحف المصرى الكبير» قبالة منطقة الاهرامات بالجيزة، تحلق روحك فى المكان، وكأن الملوك الفراعنة فى استقبالك، أنفاسهم تعبء هواءه، وتنفث قدراتهم الروحية فى الأرجاء.. أرادوا أن يبهروا العالم من جديد، ويثبتوا أن المصريين قادرون رغم المصاعب على تشييد حضارة جديدة، بأيدى أحفادهم. مندوبا الأهرام خلال جولة المتحف العاملون يسطرون آيات من التفانى والعمل، يحولون قطع الحديد الصلبة إلى نخيل وزهرة اللوتس وإعادة البسمة إلى شفاه التماثيل الحجرية التى طواها الزمان منذ آلاف السنين، مستمدين عبقرية أجدادهم وجلد أسلافهم.. سقالات منصوبة، فنانون يرممون، وعلماء يخططون لعرض ليس ألفا أو ألفين أو 5 آلاف أثر، بل 50 ألف أثر..ما بين ملوك وملكات.. ملابس..اكسسوارات..أوان..أحذية..أسرة..عجلات حربية..معبودات و...و....والكثير من التفاصيل الدقيقة لحياة الانسان المصرى القديم المبهرة... والمكان..مبهر وعبقرى الانتقاء، هنا يقف رمسيس الثانى للمرة الأخيرة وقفته النهائية بعد أن عاد إليه شموخه وها هى ذريته وأجداده يتهيئون للوقوف خلفه على الدرج العظيم الذى يتهيأ لاستقبال زواره ليحكى قصة الحضارة والعبادة وفنون العمارة والهندسة، هنا ينتظرك ملوك ما قبل 5 آلاف عام قبل الميلاد، يحكون للعالم تاريخ مصر، يعرضون إنجازاتهم التى مازالت تبهر العلماء، والعالم كله ينتظر إطلالتهم من جديد. أسئلة كثيرة كانت مزدحمة فى رأسنا، نريد ردودا شافية عليها من المسئولين، لكن إبهار العمل، وضخامة الانجاز، أجابت عمليا على الكثير منها، ولم يتبق منها غير القليل، منها السؤال عن أسباب تأجيل الافتتاح الجزئى من أواخر العام الحالى إلى عام 2020؟ أجاب عنها مايسترو مركز الإشعاع الحضارى الدكتور طارق توفيق، المشرف العام على المتحف المصرى الكبير، قائلا:» ما يتبادر لأذهان الناس أنه حدث تأجيل للافتتاح،لكن الحقيقة عكس ذلك، الافتتاح تم تقديمه، بعد أن أنجزنا الكثير، فالخطة السابقة كانت تقسم الافتتاح إلى مرحلتين، الأولى كان مزمعا لها أواخر العام الحالى، فيما الثانية عام 2022، لكن القيادة السياسية رأت أن يكون الافتتاح واحدا ونهائيا عام 2020،لاتاحة الفرصة لتطوير المنطقة المحيطة والخدمات الملحقة والبنية التحتية السياحية المطلوبة، والتسويق السياحى العالمى المصاحب لهذا الحدث الضخم، بحضور رؤساء وزعماء العالم،مع التشديد على الالتزام بالمواصفات العالمية والحفاظ على الأثر واستخدام مواد صديقة للبيئة ومراعاة زراعة نباتات فى حدائق المتحف لا تستهلك كميات كبيرة من المياه. كما أن العرض المتحفى فى الافتتاح النهائى سيمثل إبهارا ضخما..فلك أن تتخيلين أن 50 ألف أثر تجتمع تحت سقف واحد، منها قطع الآلاف التى ستعرض للمرة الأولى مثل الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون وآثاره وهى 5 آلاف قطعة، فضلا عن 45 ألف ملك وملكة وآثار أخرى تمتد حتى العصر اليونانى ومجموعات من مقابر النبلاء وغيرها.. معمل الترميم وهذا الكم من الآثار لا يعنى مجرد نقلها من المخازن المنتشرة على مستوى الجمهورية فحسب،بل إن ما يحدث أن يدا حنونا تمتد إليها، تداويها وتلملم جراح «عزلتها» تحت التراب وفى المخازن لعقود وعقود، وهم المرممون الشباب المنتشرون فى جميع أقسام معمل الترميم العالمى بفروعه فى علم الأخشاب والبقايا العضوية النباتية والآدمية والحيوانية،و معمل المواد غير العضوية من المعادن والخرز والأحجار بمختلف أوزانها من قطع تزن جرامات معدودة إلى أكثر من 400 كيلو جرام، فكل أثر يستقبله المختص به، ليعزله ويغلفه ويحقنه بالأشعة والغازات وبمواد تداوى ما به من أمراض وكدمات وجروح. ففى معمل الترميم،وهو الوحيد من نوعه فى العالم باقسامه وتخصصاته، سألنا سارة حسن، إحدى شابات قسم العلاقات الدولية عن مستوى قدرات شباب المرممين المصريين، فما كان منها إلا الاندفاع بحماس، واصفة إياهم بأنهم أفضل المرممين على مستوى العالم، لأنهم اكتسبوا مهارتهم العالية من التعامل المستمر مع الاثار وقدم البرديات فضلا عن دورات تدريبية مكثفة حصلوا عليها من مختلف الدول، والاهم عملهم بإحساس مختلف وهو الحب الشديد للاثر باعتباره من أهلهم وأجدادهم.. وبسبب هذا الاحساس وتلك البراعة صرنا نعطى دورات للأجانب. وأمام قلادة جميلة توقفنا، وقالت سارة عنها إن المتحف تسلمها وهى « شويه خرز فى علبة»،يصل عددها إلى ثلاثة آلاف خرزة، بعد ان تحللت الخيوط التى كانت تجمعهم، لكن اليد المصرية الواعية حولتها الى قلادة بنفس ألوانها الزاهية بعمل متواصل استمر شهرين كاملين، وبعد ان سلك المرمم كل سبل البحث والتنقيب والإطلاع العلمى ليعيدها إلى ما كانت عليه قبل 7 آلاف عام تقريبا. ولمسنا فى جولتنا مدى البراعة فى التعامل مع البردية الملكية الوحيدة التى عليها نصوص من كتاب الموتى والتى انتقلت من «الركنة» فى المتحف المصرى بالتحرير وكان ملتصقا بها طبقات من الكرتون،وهو المادة السائدة فى الترميم فى ذاك الوقت و كان الغرض منه إكساب تلك النصوص نوعا من الصلابة.. لكن بعد تطور طرق الترميم تم حفظها حاليا فى ورق ناعم من مواد طبيعية تحمى ولا تدمر. عن «توت» 700قطعة من أثار هذا الملك، تم ترميمها، هكذا تتحدث إيمان شلبى رئيس معمل وكأنه حبيب قريب من القلب، وعن رحلة ترميم دولاب الملابس التى لم يسبق التدخل فيها إلا أثناء عملية الاكتشاف، مع استخدام تقنيات عالية لحفظ القطع فى ظروفها الحرارية المناسبة وكيف بذل المرممون مجهودات جبارة لعودة القطع من صنادل ومساند ودروع وقفازات وملابس بعضها استغرق 6 أشهر إلى أصلها ولونها وقت الاستخدام معتمدين على نقوش وصور ابيض واسود، وتؤكد رئيس المعمل أن الترميم لم يعد مقصورا على التحف والمعروضات الخاصة بالمتحف بل امتدت شهرته إلى مؤسسات مصرية أخرى فأحضروا مقتنياتهم لترميمها منها نسخة وصف مصر الخاصة بالبرلمان المصرى. ونحن نستكمل جولتنا، سألنا عن خريطة الموقع وقت الافتتاح، فقال د.طارق إنه كل ما يتعلق بالعرض المتحفى، الذى يشمل ساحة كبيرة بها مسّلة ثم البهو الذى يقف فيه الملك رمسيس الثانى مستقبلا ضيوفه،ثم على الدرج العظيم يعرض 86 أثرا تعبر عن استمرارية والأبدية والخلود، على أربعة أقسام الأول تماثيل تعبرعن الهيئة الملكية عبر 5 آلاف عام، والثانى كتل ضخمة من معابد منتظمة فى تتابع تاريخى ويتتبع الزائر تطور العمارة القديمة وفى المستوى الثالث يرى الزائر تماثيل للمعبودات المصرية القديمة والعلاقة بين المعبودات والملوك،وصولا الى قطع أثرية ضخمة مرتبطة بالفكر الجنائزى،وهذه المرحلة تعد الزائر للنظر الى أكبر جبانة وهى «الاهرامات الثلاثة». كل هذا على الدرج العظيم الذى على يمينه قاعات تعرض لأول مرة 5 آلاف قطعة للفرعون الذهبى توت عنخ آمون،وعلى اليسار قاعات لعرض 45 ألف قطعة أخرى من قبل الميلاد ليتوقف العرض المتحفًى عند العصر اليونانى. ومن المبانى الخاصة التى يجرى العمل بها وستكون جاهزة مع الافتتاح:»مركز المؤتمرات ومتحف الطفل و10 مطاعم وفندق صغير و28 محلا وسينما ومطعما خلف نادى الرماية بإطلالة مميزة على الاهرامات الثلاثة، فضلا عن الحدائق التى تضم بعض النباتات المرتبطة بالبيئة الفرعونية مثل الجميز واللوتس وَالنَّخْيل. فرص عمل للشباب عند باب الخروج من المتحف، سألنا د.طارق عن مركز الإشعاع الحضارى هذا وماذا يقدم للشباب؟ رد مبتسما:» هناك بالفعل فرص عمل جديدة ومتنوعة، سوف تتاح بعد الافتتاح، خاصة للقاطنين بالقرب من المتحف، فمن المتوقع أن يستقبل المتحف وملحقاته أكثر من عشر آلاف زائر يوميا،مما يفتح المجال للمئات من فرص العمل المتنوعة لتلبى خدمات النقل والضيافة والهدايا وغيرها. وعن العقبات التى واجهت العمل فى هذا الصرح الكبير قال المشرف العام أولاها كان تأمين التمويل اللازم حتى وصل القرض الثانى من اليابان 450 مليون دولاربفائدة بسيطة جدا، وثانيتها التناغم الكامل بين الإنشاءات والترميم ونقل الآثار من جزر منعزلة إلى منظومة متكاملة فى التوقيتات المنشودة،وعن الجدل الذى أثاره شعار المتحف.. قال إن رد الفعل عليه له إيجابيات عديدة، فقد كشف عن حجم الاهتمام بالمتحف وهو بالطبع عمل فنى يخضع للاذواق، وعموما سيتم دراسة مدى إمكانية تعديل أو تغيير شكل الشعار، فيما دعا وزير الآثار لعمل مسابقات لوضع تصورات لأكثر من 50 متحفا مصريا. وأضاف: وقبل أن تسألونى عن عقبة الاختناقات المرورية المتوقعة،أطمئن الجميع أن حرم المتحف ضم أماكن واسعة بل شاسعة لانتظار الحافلات السياحية وتم شق طرق جديدة فى مدينة الضباط بالرماية لتخدم المتحف وزواره وتحقق السيولة المرورية فى المنطقة بأكملها..فاطمئنوا. ............ و أخيرا، طالعوا الصور المرفقة لهذا الصرح العظيم..وانتظروا عام 2020،،،، الافتتاح المرتقب و المبهر للمتحف المصرى الكبير.