سعينا فى مقال سابق نشر بجريدة الأهرام فى 13 من أغسطس سنة 2018، إلى تحديد ما يتعين على الدولة توفيره للمواطنين تحقيقاً لحياة أمنة وللمساواة الفعلية بينهم وذلك ليس فقط بإصدار القوانين المنظمة لذلك ولكن بإعمال هذه القوانين وتطبيقها بحزم على الجميع. غير أن السؤال يثور حول مدى قابلية المجتمع لتلقى هذه القوانين وإدراكه لزومها لتنظيم حياته، ذلك أن نصوص القانون تظل جامدة بلا حراك إذا لم يقتنع المجتمع بها ويدرك ضرورتها. كما تقضى أبسط مبادئ علم الاجتماع القانونى الذى يؤكد عدم إمكان تطبيق قاعدة مادام أن المجتمع غير مؤهل لاستيعابها. وإذا كانت الدولة قد حرصت على إصدار تشريعات تستوى مع أحدث التشريعات فى العالم فى العديد من المجالات؛ فأيها مع ذلك لم تتدخل بشكل حاسم لفرض هذه القوانين وتنفيذها بما فى ذلك قوانين تمس أمن المجتمع كتلك المتعلقة بحياة المواطنين الجسدية والعقلية والتى تتطلب وضع حد لما نشهده من جرائم قتل بالشارع المصرى وطرق النقل اللذين أصبحا أقرب إلى غابة بشرية وكذا الجرائم التى تهدد الصحة العامة بشكل خطر كتلوث الماء والغذاء والتهام الأراضى الزراعية اللازمة لقوت الشعب بالبناء عليها وكذلك الجرائم المرتكبة ضد الفكر الانسانى التى تهدف لإبقائه فى مستنقع التخلف. إن مثل هذا الموقف السلبى يوحى بأن الدولة تفترض مقدماً حسن استعداد المواطنين لتقبل هذه القوانين وإدراكهم لضرورة الانصياع لها لتنظيم حياتهم. وهذا الافتراض يشكل ما يعرف بالمصادرة على المطلوب أى تقرير النتائج قبل التحقق من المقدمات كما يتنافى مع أبسط مبادئ علم الاجتماع القانونى وهى التى تقضى بضرورة تهيئة المجتمع أولاً لتقبل ما تضعه الدولة من قوانين كى يشكل جزءاً من حياته. وغنى عن البيان أن المجتمع المصرى لم يتم تأهيله بعد لإدراك خطورة المشاكل المحيطة به وللدور المطلوب منه لدرء آثارها الضارة ومن ثم لا مجال لافتراض وجود القناعة اللازمة لديه والوازع الضرورى الذى يحثه على تقبل ما تسنه الدولة من قوانين والقيام بتنفيذ هذه القوانين تلقائياً. ولعل السبيل الوحيد لخلق الوعى والوازع اللازمين هو اللجوء إلى ما يطلق عليه القوى الناعمة وهى القوى التى تستطيع التغلغل داخل نفس الانسان وتستقر فى وعيه دون إدراك منه بذلك أو سعيه إليه. إن المجال الأول الذى يتعين فيه إعمال القوى الناعمة هو بلا شك مجال التربية والتعليم وخاصة فى المراحل الأولى ، فمن الثابت أن الانسان تتشكل مداركه فى السنوات الأولى من حياته وتصبح بعد ذلك جزءاً من ناموس حياته . بيد أن اكتشاف الطفل خلال حياته عدم اعتداد البيئة الحاضنة له من أسرية ومجتمعية للقيم التى نشأ عليها من شأنه أن يدفعه إما إلى التراجع عن هذه القيم للسير فى الركب الجماعى وبروح القطيع وإما الهجرة من الوطن الذى يفقد بذلك عناصر لا غنى عنها لتقدمه، بالإضافة إلى أن غياب النموذج الحى للمبادئ التى شب عليها الطفل لدى قادة المجتمع والقائمين على شئونه كفيل بأن يفقد المواطن إيمانه بالقيم السليمة التى قد يكون قد نشأ عليها. إن العبء الأكبر يقع اليوم على عاتق نخبة المجتمع المدنى وقادته من العلماء وأهل الدين والثقافة والفن والأدب وكذا الرياضة لكى يعملوا ما يملكون من القوى الناعمة لإعطاء النموذج الحى لأبناء مصر وذلك إلى حين قيام الدولة بتحقيق دورها المنشود على المستوى العام والقيام بإرشاد المجتمع عن طريق التعليم والإعلام وإفساح المجال لكل ما هو فكر جديد والتعبير غير المشروط عنه مادام أنه لا يشكل خطورة على أمن المواطن الجسدى أو العقلي. وليس بخاف ما تملكه القوى الناعمة من قوة كذلك فى المجال السياسي. فقد شاهدنا لمصر مكانة مرموقة فى العالم العربى والإفريقى بفضل قواها الناعمة الثقافية والأدبية والفنية ولا شك أن عودة لجوء مصر واستعادتها جميع قواها الناعمة كفيل تبوؤ مصر لمكانتها الرائدة السابقة. ولا تزال القوى الناعمة سلاحاً مهماً لدى الدول الكبرى لتشكيل العقول بل وأسلوب الحياة فى العديد من الدول وخاصة دول القارتين الآسيوية والإفريقية فقد شاهدنا الثقافة الامريكية والفن الامريكى يتوغلان فى العالم بفضل السينما الامريكية بل والزى الأمريكى ونظام الوجبات السريعة إلى غير ذلك من الوسائل كذلك من المعلوم أن الاتحاد السوفيتى لجأ إلى قواه الفنية الناعمة، خاصة فن الباليه، لنشر نفوذه فى جميع أنحاء العالم الثالث. ويتراجع تأثير هذه القوى الناعمة إذا حادت الدولة عنها لتحل محلها القوى الخشنة فى المجتمع الوطنى والدولي، ومن الأمثلة الحية على ذلك ما نشهده من ضمور لمكانة الولاياتالمتحدةالامريكية من الناحية الانسانية والثقافية على أثر مواقفها المخالفة لأبسط مبادئ حقوق الانسان وتأييدها استيلاء دولة إسرائيل على مدينة القدس كاملة ومساندتها لجريمة الابادة الجماعية التدريجية للشعب الفلسطينى التى تعتبر جريمة الجرائم فى القانون الدولى. كذلك لا شك فى أن اللجوء إلى ازدواجية تطبيق الدولة للمعايير يشكل قوى ناعمة مضادة لمكانتها سواء لدى المجتمع الداخلى أو الدولي، ومن ثم فإن قيام الدولة بالتفرقة العنصرية والدينية على المستوى القومى أو الدولى من شأنه الاقلال من مكانتها، وهنا يمكن ضرب مثل آخر لأسلوب المعايير المزدوجة للولايات المتحدةالامريكية التى أفقدت العالم الثقة بها لدرجة الاجماع ضد موقفها بالنسبة لجعل القدس عاصمة لإسرائيل وكذلك حمايتها قادة إسرائيل من المثول أمام القضاء الدولى بسبب جرائمهم ضد الانسانية ضد الشعب الفلسطينى بينما هى فى الوقت ذاته تحث المحاكم الجنائية الدولية على محاكمة قادة دول أخرى، خاصة فى افريقيا وآسيا، لارتكابهم جرائم ضد الانسانية وذلك رغم أن بشاعة الجرائم المرتكبة ضد العرب الفلسطينيين تزيد بشاعة على تلك المرتكبة فى دول أخرى، إذ هى تجمع، فى نفس الوقت، بين عدة جرائم ضد البشرية بدءاً بالإبادة الجماعية وطرد السكان والاستيلاء على أراضى الشعب العربى تمهيداً لطرده وسجنه دون محاكمة أو نتيجة لمحاكمات صورية القضاء منها براء. لمزيد من مقالات ◀ د. فؤاد عبدالمنعم رياض