أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جري من مقلة عدم تلك القصيدة الرائعة التي كتبها الإمام البوصيري رضي الله عنه في مدح الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم لا تزال منبعا لإلهام المبدعين في كل العصور. ولقد قدمت قصيدة بردة البوصيري في عرضين مسرحيين خلال شهر رمضان الذي ودعناه أخيرا, كانت التجربة الأولي علي مسرح مركز الإبداع الفني بالأوبرا من خلال شباب الدفعة الثالثة لاستدديو مركز الإبداع, والعرض الثاني برؤية المخرج الفنان حمدي أبو العلا الذي اشتهر بتقديم العديد من الأعمال الدينية والمدائح الراقية الصادقة,وستكون لنا بالتأكيد وقفة مستقلة مع عرضه, ولعله من العجيب أيضا أن يقدم المخرج فوزي المليجي في الشهر نفسه مسرحية لقصيدة نهج البردة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي متأثرا ومعارضا قصيدة أستاذه الإمام البوصيري.. والمعارضة في الشعر لا تعني الاختلاف أو النقد وإنما تعني كتابة قصيدة علي النهج نفسه والالتزام بالوزن والقافية.. ولعل الجيل السابق لا ينسي تجربة بردة الإمام البوصيري التي أداها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما مجموعة من كبار الفنانين من بينهم عبدالوارث عسر وعبدالرحيم الزرقاني وأمينة رزق وجلال الشرقاوي وحمدي غيث وكانت بداية المطرب علي الحجار وهو لا يزال شابا في أول الطريق, وقد روي لي والده الفنان الكبير الأستاذ إبراهيم الحجار الذي شرفت بمصادقته ورعايته لي ضمن عشرات المبدعين والشعراء بل وقراء القرآن الكريم الذين كانوا ينهلون من علمه ويتمون تدريبهم علي يديه بوصفه أستاذا متفردا لمادة المقامات الشرقية في معهد الموسيقي العربية.. روي لي ذلك الفنان أن ابنه علي استحيي أن يغني في البردة كمطرب فردي بينما والده وأستاذه يقف ضمن صفوف الكورال, وقرر أن يعتذر عن عدم المشاركة في الحفل لكن والده أصر علي تشجيعه وقال له إنه اللحظة التي يحلم بها كل أب, أن يري ابنه ينجح ويتفوق عليه ويثبت له أن مجهوده لم يذهب في الهواء. ونعود إلي عرض مركز الإبداع حيث قرر المخرج الموهوب خالد جلال أن تتحول القصيدة إلي حركة مسرحية دائبة, لكنها في الوقت نفسه وقورة تتفق مع معاني الأبيات وتعبر عنها. وهكذا كان التشكيل المستمر من خلال حركة الممثلين واستخدام الإضاءة بما لا يشعر المتلقي بأنه أمام قصيدة فردية تحمل صوتا واحدا هو صوت الإمام البوصيري, وتألق من الأصوات المطربة في العمل رباب ناجي وشادي عبدالسلام من خريجي الدفعة الثانية, وتتميز رباب بصوت قوي وعذب في الوقت نفسه ومهارة خاصة في غناء روائع الفنانة فيروز قدمتها من خلال اشتراكها في فرقة أيامنا الحلوة, كما يتميز شادي عبدالسلام بصوت عريض وقوي يذكرنا بأيام الطرب الأصيل, كما تتألق من الدفعة الثالثة نجوي حمدي وهي قد بدأت بالفعل أولي خطواتها نحو ساحة الغناء وهي صاحبة إمكانية صوتية كبيرة يجب أن تستثمر في المسرح الغنائي, وأيضا ألحان المهدي أصغر أعضاء الدفعة الثالثة سنا حيث لم تكمل بعد ستة عشر عاما وصوتها شديد العذوبة والنفاذ, كما تتمتع بحضور قوي جاذب للجمهور, ومن أصوات الشباب تميز ماهر محمود الذي يحسن العزف والغناء ويشارك أيضا في فريق أيامنا الحلوة لأداء الأغاني والأدوار القديمة التي تحتاج إلي إمكانات صوتية كبيرة.. وقد استفاد الملحن عماد الرشيدي من وجود تلك الخامات الصوتية في عمل تنويعات لحنية أضافت بعدا روحيا مكملا لمعاني القصيدة الجبارة التي ستبقي تداعب خيال المبدعين المحترفين والهواة علي السواء, كما ستبقي محفوظة في ذاكرة من قرأها بما تحمل من قيم روحية وإنسانية وتضرع لله بالدعاء شديد الصدق والشفافية مثل قوله يا نفس لا تقنطي من ذلة عظمت.. إن الكبائر في الغفران كاللمم.. لعل رحمة ربي حين يقسمها.. تأتي حسب العصيان في القسم هو مجهود يستحق التقدير وتدريب رائع لنجوم المستقبل ليتعرفوا علي جواهر الشعر وجماليات اللغة العربية ويتقنوا فن الإلقاء فيقدموا لنا مسرحا راقيا ثائرا علي السطحية والسذاجة قادرا علي الدفاع عن قضية الفن ورسالته في بناء المجتمع الجديد.