العقوبات الدولية كانت ولاتزال إحدى وسائل الضغط التى يستغلها المجتمع الدولى لتغيير سلوك دولة بعينها، لكن بالرغم من أن أول استخدام معاصر للعقوبات كسلاح للردع جاء مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بات السلاح الجديد مرادفا فى الأذهان للولايات المتحدةالأمريكية التى توسعت من حينها فى العمل به لتكون أكثر مستخدميه على الإطلاق، سواء بشكل منفرد أو عبر حشد حلفائها لتشكيل جماعة ضغط على الدولة المستهدفة بعيدا عن مظلة الأممالمتحدة. وهو ما اعترفت به دراسة أمريكية أدانت ذلك التوجه التى اتبعته الإدارات الأمريكية المتتالية على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها، قائلة إن الولاياتالمتحدة فرضت نحو 125 حزمة عقوبات ضد 47 دولة فى الفترة التى امتدت ما بين 2002 وحتى 2006 فقط. وأكدت الدراسة التى نشرتها جامعة المحيط الهادئ أن العقوبات والحظر باتا سياسة أمريكية معتادة تجاه الدول المعارضة لها. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل أشهرها وأكثرها معاناة هى إيران، فقد طبقت واشنطن أول حزمة عقوبات على طهران في1979، إثر اشتعال أزمة احتجاز الرهائن فى السفارة الأمريكية هناك، مما دعا الرئيس الأمريكى آنذاك جيمى كارتر لإعلان حالة طوارئ وتجميد أصول إيرانية بقيمة 12 مليار دولار. وأخذت تتطور هذه العقوبات وتتشدد مع الوقت حتى بلغت ذروتها عام 2012 مع تجميد الإدارة الأمريكية لأرصدة كل المؤسسات المالية الأجنبية التى تقيم علاقات تجارية مع البنك المركزى الإيرانى. مثال آخر لأحد ضحايا أمريكا وأشهرهم هى كوبا، تلك الدول اللاتينية الصغيرة التى تعانى تضييقا أمريكيا منذ عام 1958 عقب الثورة الكوبية التى صعد على إثرها الزعيم فيدل كاسترو لسدة الحكم. فالعلاقات الأمريكية- الكوبية تدهورت بشدة مع تأميم هافانا للعديد من الشركات الأمريكية، لكن العلاقات وصلت إلى أدنى مستوياتها عام 1962 مع سماح السلطات الكوبية لنشر صواريخ الاتحاد السوفيتى فى أراضيها، وإعلان واشنطنكوبا أحدى الدول الراعية للإرهاب. وهو ما أعقبه فرض سلسلة من العقوبات ضيقت الخناق على الاقتصاد الكوبى. وشهدت العلاقات انفراجة مؤقتة مع نهاية حكم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، إلا أنها سرعان ما عادت مجددا إلى التدهور مع صعود الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. أما روسيا، فتعتبر الخصم الأشهر والأبرز للولايات المتحدة على قائمة الدول التى تعانى العقوبات. وتفجرت الأزمة بين واشنطن وموسكو عام 2014 مع تصاعد الأحداث فى أوكرانيا وضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى أراضيها، حيث فرضت واشنطن عقوبات ضد عدد من الأفراد والشركات الروسية والأوكرانية. واعتمدت الإدارة الأمريكية فى ذلك الوقت نظاما متعدد المستويات شمل قيود على تأشيرات بعض الأشخاص وتجميد الممتلكات وإيقاف الحسابات البنكية للأفراد والشركات المدرجة على القائمة السوداء. واستهدفت العقوبات الأمريكية فى المقام الأول قطاعات الطاقة والدفاع والتعدين والمالية والاستثمار، فضلا عن حظر توريد الأسلحة والمعدات العسكرية والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج كذلك أحد الأمثلة الأشهر ،بلا شك، هى كوريا الشمالية والعقوبات المفروضة عليها منذ انتهاء الحرب فى شبه الجزيرة الكورية أوائل الخمسينيات، لكنها اشتدت وزادت حدتها مع الوقت فى ظل إصرار بيونج يانج على تخصيب اليورانيوم وتطوير أسلحة نووية وصواريخ باليستية. واحتفظت واشنطن بعقوباتها على بيونج يانج بالرغم من التفاهمات التى تم التوصل إليها خلال قمة سنغافورة بين ترامب والزعيم الشمالى كيم جونج أون، بل رأت ضرورة استمرار الضغط وتضييق الخناق عليه لحين نزع السلاح النووى نهائيا من شبه الجزية الكورية. ولاتزال القائمة طويلة والأمثلة كثيرة. فالفكر والنهج الأمريكى دائما واحد مع كل الدول، مهما اختلفت وتبدلت توجهاتها. فيبدو أن واشنطن وجدت فى العقوبات الاقتصادية ذلك الحل السحرى لمعادلة تحقيق المصالح دون تحمل مشقة وفاتورة التدخل العسكرى.