في السادس من مايو عام1925 نشرت الأهرام مقالا للدكتور علي مصطفي مشرفة بعنوان الجامعة والبحث العلمي بدأه بأن البحث العلمي كسائر أعمال البشر يتوقف نجاحه فيما يتوقف علي تنظيم دواليبه وتنسيق أساليبه, ولذلك كان من الضروري أن تنشأ هذه الدواليب إنشاء ينطوي علي الحكمة وينبني علي الخبرة والتضلع,, ان من أهم هذه الدواليب هي الجامعة, فإذا نحن تطلعنا الي ما ينشر في العالم العلمي من أبحاث وما تفيض به قرائح البشر من المبتكرات العلمية ألقينا الجزء الاكبر منها, بل أن شئت فقل جلها هو وليد الجامعات( انتهي). واليوم أجدني متشوقا إن أكتب مؤكدا هذا القول بعد قرابة82 سنة من هذه المقالة التي نشرت إبان إنشاء الجامعة المصرية, فما اشبه الليلة بالبارحة, فالافكار التي طرحت ما زالت هي هي بالرغم من مرور هذه الاعوام الطويلة من تكرار التجارب, ومن يطلع علي أرشيفات الجرائد والصحف المصرية يجد الآلاف من المقالات والدراسات حول البحث العلمي وكيف ننهض به وكيف نجعله دستورا نعيش من خلاله لنأخذ مكانتنا علي مستوي العالم المتقدم والمتأخر, أيضا فهناك دول بدأت بعدنا في نهضتها وللاسف سبقتنا, أننا للاسف لم نعدم الكوادر البشرية فحملة الدكتوراه والماجستير تمثل أكبر نسبة علي مستوي العالم, وبحوثنا عندما يجوبون العالم الآخر يبدعون, أي أننا لسنا عجزة ولا نحتاج إلي تقويم وفي هذا حدث لا حرج, فبين المصريين اليوم أعداد غفيرة ممن مارسوا البحث العلمي في الجامعات الغربية وأمريكا وبرعوا وسجلوا نجاحات لامثيل لها وكانوا منافسين حتي لابناء البلاد التي عملوا فيها, ولكن للاسف عندما عادوا الي وطنهم ألفوا حالا وجوا غير الحال, فإذا نحن بادرنا الي معاونة هؤلاء علي الاستمرار في أبحثاهم وأتحنا لهم فرصة مواصلة ابتكاراتهم, كانوا نواة صالحة تنتج لنا أجيالا نفخر بها ليقودوا البحث العلمي في مصر. وبالرغم من تفاؤلي الحذر بما يحدث اليوم علي الساحة بخصوص البحث العلمي وأهمية النهوض به بدءا من اهتمام رئيس الدولة الذي جاء من بيئة جامعية ويعرف الكثير ويفهم الاكثر عن المشاكل التي تواجه البحث العلمي بالاضافة الي دماء جديدة بدأت تجري في شرايين المشروع العلمي الذي قدمه الدكتور أحمد زويل والذي أتمني ويتمني الجميع أن يراوح مكانه وتنتهي المشاكل الادارية والنفسية التي تواجهه, فقد جاء الاعلان الذي يبث الآن علي قنوات التليفزيون المختلفة تعبيرا جديدا لفكر جديد يخاطب العقل والقلب, يبين أن تقدمنا في العلم سيكون مفتاح وجودنا عالميا اذا كنا مازلنا نطمح أن يكون لنا دور كما كان لنا في الماضي السحيق علي الجانب الانساني والحضاري. أخيرا فإن مشاكل البحث العلمي لا تنحصر فقط في التمويل فهو منظومة تشمل مكوناتها الموارد البشرية والتمويل والجهات المستفيدة من البحث ممثلة في الكيانات الصناعية والزراعية والتجارية التي تستقبل مخرجات العملية البحثية وتحفز تلك المنظومة بمشكلات بحثية جديدة يجب أن تعمل داخل مجتمع مستقر يتفهم ويقدر طبيعة البحث العلمي والعلماء, وما ينقصنا هو العمل علي استكمال تلك المنظومة ليشعر المجتمع كله بعائد البحث العلمي. فنحن بحاجة لموارد بشرية تعمل علي مستويات مختلفة, فهناك من يرسم سياسات البحث ويرشد المجتمع لموضوعات الأبحاث المتقدمة, وهناك من يتقدم بالأفكار, وهناك من يعمل علي التنفيذ, وهناك من يعمل علي التقييم, وهناك من يعمل علي نقل الأفكار للجهات المستفيدة وتسويقها ولذلك نحن بحاجة لجهات مستفيدة تقوم بعملية انتاجية حقيقية ولديها عقيدة التنافس المبني علي الابتكار مع الشركات العالمية وليس التنافس المبني علي السبق في النقل والتقليد لسوق محلية تأخرت كثيرا عن الدول الأخري....كما أن فكرة توجيه البحث العلمي لخدمة قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالوطن فكرة جيدة جدا, فعلي سبيل المثال مشاكل مصر في الغذاء والمرور والصحة تمثل تحديا حقيقيا للباحثين وتحتاج فعلا لحلول مبتكرة.. فلا قيمة للبحوث العلمية طالما لا توظف في خدمة الوطن الموجودة به. ولكن توظيف البحث العلمي في حل مشكلات المجتمع لن يتحقق إلا بتطبيق المنظومة التي تحدثنا عنها سابقا مع توجيهها في الاتجاهات المطلوبة ودعمها ببرامج محددة يخصص لها موارد أكثر مع وضع آليات أسرع لتنفيذ تلك الأبحاث والاستفادة منها. إن البحث العلمي من أشق وأرقي النشاطات التي يمارسها العقل البشري علي الإطلاق, وهو نوع من الجهاد المقدس, من أجل صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهوض به, وهذا الجهد المنظم لا يمكن أن يجري في فراغ, حيث ينبغي توفير الحرية والدعم و الأموال وبناء المنشآت والمعامل والأدوات, وتأهيل الكوادر البشرية, وخلق الحوافز المادية والمعنوية, التي تجعل من الإنتاج الفكري والعلمي عملا يستحق المعاناة والجهد المتواصل.. إذ بالإنتاج الفكري والعلمي نكون أولا نكون! أستاذ بعلوم القاهرة