بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة 23 يوليو عام 1952، جدير بنا تأمل المعانى والقيم والمبادئ التى استرشدت بها سياسات يوليو داخليا وخارجيا، وذلك بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق مع هذه السياسات، لأن هذا الجدل حول سياسات يوليو يعكس أولا أهمية وضخامة مكانة ثورة يوليو فى ضمير المصريين، من ناحية أخرى فإن توافر الإجماع حول الثورة، أى ثورة وليس فحسب ثورة 23 يوليو، هو أمر يصعب تحققه فى الواقع. ربما يكون أول المعانى والمبادئ التى وجهت سياسات يوليو هو طابعها العالمى والإنسانى والتحرري، فالثورة لم تكن فحسب ثورة على الأوضاع الداخلية المتأزمة وسيطرة مجتمع النصف فى المائة، بل تطلعت الثورة لإطلاق حركة تحررية عربية وعالمية تستهدف التخلص من الاستعمار والتطلع لنظام جديد يمنح الشعوب حقها فى تقرير المصير والسيطرة على مواردها واعتبرت الثورة ممثلة فى الزعيم الراحل عبد الناصر أن الثورة المصرية جزء لا يتجزأ من الثورة الكونية ضد الاستعمار والسيطرة الأجنبية، وأن البيئة الحاضنة للثورة لا تقتصر فحسب على القواعد والمرتكزات المحلية والوطنية بل لابد أن تستند إلى ركائز وقوى فى البيئة الإقليمية والعالمية، وهكذا استطاعت ثورة 23 يوليو أن تسهم فى صناعة وتوازنات القرن العشرين، وأن تجعل من حركات التحرر الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية قطبا ثالثا ومؤثرا فى سياسات القطبين الكبيرين الدوليين: الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدةالأمريكية، ساهمت الثورة فى تشكيل تكتل دولى تحت شعار عدم الانحياز والحياد الإيجابى ورفض التبعية واتباع سياسات تحترم مصالح هذه الكتلة التاريخية. بهذا المعنى تجاوز تأثير ثورة 23 يوليو الحدود الجغرافية للوطن وللأمة العربية وامتد إلى مختلف الدوائر المؤثرة فى العديد من القارات، أصبحت القاهرة لسان حال حركات التحرر الإفريقية من خلال الإذاعات والبرامج الموجهة بكافة اللغات، وكذلك مكاتب حركات التحرير الوطنية. أما ثانى هذه المعانى والمبادئ التى استرشدت بها سياسات الثورة فيتمثل فى المزاوجة البناءة والعملية بين الحداثة والمعاصرة وبين الخصوصية الثقافية والدينية، واستلهمت فى ذلك أهم مبادئ مفكرى عصر النهضة فى التوفيق بين الوافد والموروث، وبين الحداثة ونظمها الإدارية والتعليمية والعلمية وبين الموروث الدينى البناء والدافع إلى الاقتباس والاندماج فى روح العصر، وهكذا جمعت سياسات يوليو بين الصناعة والتعليم والتحديث فى البنى الإنتاجية وبين القيم العلمانية الحديثة وبين احترام الموروث الدينى الذى يحفز التقدم واللحاق بالعصر، جمع خطاب يوليو وخاصة زعيمها الملهم عبد الناصر كافة هذه القيم الحديثة والمتقدمة فى إطار يلائم الخصوصية الثقافية والدينية ويبرز التمييز ولكنه فى الوقت ذاته لا يحول دون الالتحام بروح العصر ومفاهيمه، وفى هذا السياق ميز خطاب يوليو بين الغرب ووجوهه المختلفة، فالغرب ليس كتلة صماء مصمتة بل هو تيارات فكرية وإنسانية وحضارية وعنصرية مختلفة والوجه الاستعمارى للغرب لا يجب بقية الوجوه الحضارية والإنسانية فى تكوينه، وحدد خطاب يونيو استراتيجيات مختلفة للتعامل مع وجوه الغرب المختلفة. وثالث هذه المعانى والمبادئ لثورة 23 يوليو يتمثل فى رفض الحكم الدينى وتسييس الدين والإصرار على الإبقاء على هوية الدولة المدنية فى مصر، تلك الدولة التى افتتحت بها مصر نهضتها الحديثة وتدرجت فى الأخذ بالقوانين والتشريعات المدنية التى تستلهم مقاصد الدين الحنيف، وميزت ثورة يوليو بين الدين باعتباره مجال الكليات الأخلاقية والروحية والإنسانية المقدسة والتى تستمد قداستها من القرآن والسنة النبوية وبين السياسة باعتبارها مجال الفاعلية الإنسانية والبشرية أى ذلك المجال الذى يضع المجتمع دون وصاية قواعده وآلياته ومفاهيمه، وهذه القواعد نسبية متغيرة فى الزمان والمكان، بعكس المجال الدينى المتجاوز لهما. خاضت ثورة يوليو صراعا وجوديا مع جماعة الإخوان للحئول دون فرض وصايتها على الثورة والمجتمع باسم الحاكمية لله. إن هذه المعانى والمبادئ التى استرشدت بها الثورة فى وضع سياساتها داخليا وخارجيا، قد كفلت للثورة مكانتها قى الضمير العام، وسكنت فى طبقات وعى المصريين حتى أولئك الذين لم يعاصروا هذه الثورة، بل قرأوا عنها أو سمعوا روايات الكبار عن ثورة 23 يوليو ومبادئها، ولا شك أن هذه المعانى والمبادئ جميعا ربما تتلخص فى كلمة واحده ألا وهى الكرامة فالثورة وزعيمها الراحل عبدالناصر رأوا فى هذه الكلمة مفتاح الموقف ولم تفعل هذه المبادئ سوى أن تترجم الكرامة فى سياسات عملية، فالتحرير الوطنى من الاستعمار داخليا وفى الدوائر المختلفة للسياسة الخارجية المصرية يصب فى هذا الاتجاه وكذلك التوفيق العملى الميدانى بين الحداثة والعصر وبين الخصوصية الثقافية يؤكد قدرة الذات الوطنية على التفاعل والبناء ورفض الدولة الدينية يعنى رفض الوصاية على الضمير الفردى والجمعي. لهذه الأسباب وغيرها ستبقى ثورة يوليو ماثلة فى ضمير المصريين كنموذج ومرجعية قد يصعب استعادتها، ولكن يمكن الاستفادة من قيمها ومبادئها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد