كما فى إشكالية سؤال الهوية فإن سؤال الحداثة أيضا سؤال إشكالى بسبب أنه رهين لحظة الاستعمار. طوال السنوات التى سبقت الغزو الفرنسى لم يكن سؤال الحداثة مطروحًا بالمرة. حركة التاريخ فى مصر، التابعة للخلافة العثمانية، لم تكن بطيئة فحسب، بل تكاد تكون منعدمة. المناقشات التى أجراها المصريون قبل وصول الفرنسيين كانت عبثية لدرجة لا يمكن تخيلها. المواجهة العسكرية بين الجنود الفرنسيين والمماليك لم تكن مواجهة بين جيشين ولا عتادين، لكن بالتأكيد بين حضارتين. ما حدث هو أن المصريين اكتشفوا أنهم خارج التاريخ. محاولة محمد على فى السنوات التالية لإعادة مصر لمسار التاريخ جوبهت بإشكالية لم تجد لها حلًا حتى الآن. إشكالية تتعلق بكون التحديث حين تم فى أوروبا تم، ولم يكن لدى الأوروبيين نموذج يسعون إليه، ومن ثم فإن الصراع الاجتماعى الثقافى الذى أفرز الحداثة والتحديث كان حرًا بدرجة كبيرة، ولم يُصادر عليه بينما التحديث فى خارج أوروبا مقدّر عليه أن يكون لديه إجابات جاهزة سابقة الصنع. بمعنى أن الفارق بين الحداثة فى أوروبا والحداثة خارجها أنها تمت فى أوروبا نتيجة صراع داخلى بين طرفى (القديم الحديث) فى ما أنها تحدث خارجها نتيجة صراعين الأول داخلى بين (القديم الحديث)، والثانى خارجى (الداخل الغرب). النقطة الأخيرة تحديدا ظلت دائمًا مسوّغ الأصوليين لمهاجمة دعاة الحداثة، لأنهم يتهمونهم دائمًا بالرغبة فى استيراد التجربة الأوروبية كتجربة جاهزة وسابقة التجهيز دون انتباه للتقاليد المحلية. المفارقة الأكبر أن فعل التحديث الذى تبناه محمد على، كرجل دولة، والنخبة التى ظهرت بعد سنوات، بداية من رفاعة الطهطاوى، كرجل حضارة، لم يأخذ فى اعتباره أن أدواته ثقافية اجتماعية سياسية معا، وأن تأميم النظام السياسى لا يصنع حداثة بأى حال من الأحوال مهما كانت إرادة النظام السياسى قوية فى صنعها، وأن الإبقاء على البنية الثقافية التقليدية يفرغ التحديث معناه. لم يكن سهلًا إذا استحضار فعل التحديث فى بنية سياسية استبدادية، وفى بنية ثقافية تقليدية جاهدت كى تحل «الصنبور» فقهيا! لهذا السبب فإن بعض النخب الحداثية كمحمد عبده مثلا كانوا متورطين فى السياسة بدرجة كبيرة، بل إن الأخير الذى عوقب بسبب مشاركته عرابى فى تمرده خلت مذكراته من الكلام عن المشروع الحداثى الذى كان أحد رموزه بينما استغرق فى الكلام عن السياسة والنضال من أجل الدستور، وهو ما دفعنى للقول فى مقال سابق للقول بأن التنوير فى نسخته المصرية كان دستوريا! وربما بسبب فشل هذا النضال الدستورى، خصوصًا بعد وقوع مصر تحت الاحتلال الإنجليزى، عاشت مصر أزمة كبيرة لأن التحديث قوبل بعقبة تأميم النظام السياسى نفسه «الملكى الخديو التبعية للإنجليز»، وقوبل بالثقافة الدينية التقليدية المؤسسة للتأميم السياسى، ومن ثم فقد صنعت أسرة محمد على تحديثا، ولم تصنع حداثة. وهو ما استمر حتى بعد ثورة يوليو فرغم خطواتها فى البداية نحو التحديث بشكل أسرع مستبعدة القوى الدينية تقليدية ربما لأن شرعيتها أتت من الشعب الذى دعم الانقلاب العسكرى، ورغم أن النظام السياسى بدا وكأنه فى مواجهة مع النظام الثقافى فإن استمرار الاستبداد السياسى أفقد مشروع الحداثة جوهره، بل إن النهضة الثقافية التى حدثت فى الخمسينيات والستينيات كانت نتيجة لتراكمات جهد فاعلى لحداثة أكثر مما كانت نتيجة للثورة نفسها. صحيح أن الأخيرة وفّرت «الرعاية» للحداثة ولأبناء الحداثة، لكن الصحيح أيضا أنها وضعت لهذه الرعاية شروطًا لم يكن تجاوزها ممكنا أبدا. كانت ثمة صفقة غير معلنة بين السلطة وبين فاعلى الحداثة فحواها أن لا يتجاوز فاعلو الحداثة حدود الثقافة ليصلوا إلى تخوم السياسة وإلا جرى ما لا يحمد عقباه، ومن ثم مالت الكفة نحو الثقافة، وكف النضال الدستورى تمامًا على عكس تاريخ مصر مع الحداثة. ومع هذا فقد انهارت الحداثة فى عصر ناصر سريعًا بعد النكسة، بل إن النكسة نفسها كشفت عن عدم تمكن الحداثة من الجماهير فارتد المصريون بسهولة إلى الثقافة التقليدية الدينية لتعليق النكسة على «غضب الله»! ثم استجابوا سريعًا لرغبة السادات فى استبعاد الحداثة تمامًا وإعادة «أخلاق القرية» بالتحالف مع تيار الإسلام السياسى المعادى للحداثة فى سبيل شرعنة حكمه بعيدا عن الناصرية والاشتراكية، وفى الوقت الذى وظف صحفه لمهاجمة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ صار الشعراوى ومصطفى محمود وغيرهما أيقونات العصر. ومع هذا فقد ظل النظام السياسى يدّعى توجهه الحداثى، فتم اختلاق ما عرف بالمنابر، وتم صياغة دستور 1971. ثم جاء مبارك ليتيح تشكيل الأحزاب، وليصنع ديكورًا ديمقراطيا غير محكم الصنع بينما أطلق جهاز أمنه الحرية الكاملة للوهابية التى ظلت تحرّم الخروج على الحاكم حتى قيام ثورة يناير. وطوال عصرى السادات مبارك ظل فاعلو الحداثة مطاردين من قوى الثقافة التقليدية المدعومة من النظام، بينما ظلت مناهضة النظام السياسى بلا جدوى طالما أن النظام الثقافى المؤسس له، والمشرعن له محميا للغاية. لهذا يمكننى القول وبثقة شديدة إن إشكالية سؤال الحداثة لم تُحل إلا بعد ثورة يناير وتحديدا حين صار النظام سياسيا (جماعة الإخوان) وثقافيا (الرجعية الوهابية) ملتحما فى مواجهة القوى التقدمية الراغبة فى إسقاط النظام السياسى والثقافى التقليديين، ولهذا فإن نجاح الثورة مرهون بوصول هذا الاستقطاب إلى مداه الأقصى، وهو ما يمكن أن يعبر عنه يوم 30 يونيو المقبل، لأنها سوف تكون المرة الأولى فى تاريخ الحداثة فى مصر التى سيكون إسقاط النظام السياسى فيها ملازمًا لإسقاط النظام الثقافى الداعم له، أى التى سوف يكون فيها النضال الدستورى مصحوبًا بنضال ضد الثقافة التقليدية بعد أن سقطت أقنعة المشروع الإسلامى المزعوم. والله والوطن من وراء القصد.