باتت الثانوية العامة منذ عقود قضية رأى عام ينشغل بنظامها وامتحاناتها ونتائجها وما يصاحب ذلك من مقترحات عديدة للتطوير، وقد حملت نتائج الثانوية العامة التى أعلنت منذ أيام رسائل مهمة، أختار منها ثلاثة أُركز على أولالها وهى الأهم، وقد سبقنى إليها الصديق العزيز الدكتور أسامة الغزالى حرب فى عموده اليومى تحت عنوان «وزارة الدروس الخصوصية» وهو عنوان قد يبدو قاسيا بعض الشيء لكنه يلفت إلى الحقيقة الصادمة التى ساق عليها عديدا من الأمثلة تكمن خطورتها فى أنها مستقاة من أوائل الثانوية العامة، والرسالة واضحة وهى أن المدرسة لا دور لها باستثناءات قليلة فى تفوق طلابها، وبالإضافة إلى الأمثلة التى ذكرها د.أسامة أُضيف ما ذكرته الرابعة أدبى «ما كُنتش بروح المدرسة خالص من أول يوم فى السنة» وإن أضافت أن جميع أعضاء هيئة التدريس فى المدرسة كانوا على اتصال دائم بالطلاب وفى متابعة مستمرة لهم فى أثناء فترة الامتحانات للرد على أسئلتهم، ولا يحمل هذا سوى معنى واحد وهو أن أعضاء هيئة التدريس هؤلاء هم القائمون بمهمة الدروس الخصوصية، وإلا فمن أين لهم معرفة طلابهم الذين لا يذهبون إلى المدرسة أصلا. ومن المحزن أيضاً أن ما ينطبق على المدرسة ينطبق على الكتاب المدرسى فمن الواضح أنه مهجور كالمدرسة إلا ما رحم ربي، ومن الطريف أن الثالثة مكرر أدبى قالت إنها لم تهمل الكتاب المدرسى لأن فيه «تكات» بحسب تعبيرها غير موجودة فى الكتاب الخارجي، أى أن الأصل فى الأخير، أما الكتاب المدرسى فهو منبع التكات، والمشكلة أن ما سبق يغير من الدلالات التى استقاها البعض من نتيجة الثانوية العامة، فعندما يُصرح المسئولون بأن المدارس الحكومية قد تفوقت على الخاصة نبتهج كثيرا، فقد تصدرت المدارس الحكومية قائمة المدارس التى أتى منها الأوائل بثلاث وأربعين مدرسة مقابل خمس مدارس خاصة، ولكن عندما نكتشف أن مفهوم المدرسة قد تلاشى أصلاً فإن الفرحة تختفى بدورها ويصبح الاستنتاج بلا معني. أنتمى لجيل لم يعرف الدروس الخصوصية أصلا، فلم تكن تشكل ظاهرة، وكانت مقصورة على الطلاب ذوى المستويات البالغة التدنى، وقد تلقيت تعليمى فى خمسينيات القرن الماضى وستينياته غير أننى أذكر جيدا أن ابنتى وابنى وكانا بحمد الله من المتفوقين قد أنهيا تعليمهما قبل الجامعى فى مطلع القرن الحالى فى المدارس الحكومية التجريبية ولم يعتمدا على الدروس الخصوصية على الإطلاق، وكان النموذج المتفانى المألوف للمدرس المصرى مازال سائدا، وأذكر أن مدرس الرياضيات النابه الذى كان يدرس لابنتى فى الثانوية العامة قد استنكر سؤالها له عما إذا كانت تحتاج لدرس خصوصي، وأجابها بأن هذا عمله وأنه مسئول وحده عن استيعابها الكامل للمقرر وغيره كثيرون، فما الذى حدث فى هذه السنوات القليلة التى لا تكمل ربع القرن حتى انهارت المنظومة التعليمية للمدرسة المصرية على هذا النحو؟ وللأمانة فمازال بعض المدارس يقاوم وإن كان يمثل القلة القليلة، وقد لاحظت أن مدرسة المتفوقين بعين شمس قد أخرجت وحدها أربعة من الأوائل وأن أحدهم (الأول مكرر علمى علوم) قد أشاد بدورها وإن لم يسلم من بعض الدروس الخصوصية، ويذكرنى ذلك بالفكرة التى كان يلح عليها دائما شيخ التربويين العرب حامد عمار رحمه الله وهى إحداث اختراق فى أزمة التعليم المصرى بإيلاء عناية خاصة بالموهوبين والمتفوقين، وحديث اليوم عن الثانوية العامة ودروسها الخصوصية وهى الآفة التى أصابت نظامنا التعليمى كله ليس جديدا ولكن الجديد قد يكون السياق، فنحن على أعتاب مشروع للتطوير الجذرى لهذا النظام، ولا يخالجنى شك فى علم الوزير وإخلاصه وثورية أفكاره، ولكنى نبهت منذ حديثه الشهير لأخبار اليوم إلى ضرورة التجريب الجزئى قبل الاندفاع فى التطبيق الشامل فى ظل ظروف نعلمها جميعا ولا أريد الإسهاب فيها حتى لا أبدو كعواجيز الفرح الذين لا يعجبهم العجب، غير أنه كثيرا ما ينتابنى كابوس فصل مزدحم بثمانين تلميذا فى بيئة غير مواتية يمسك كل منهم بتابلت تحت إشراف مدرس غير مدرب وشبكة اتصالات متخلفة، وأضيف نصيحة أخرى للوزير وهى أن يقرأ كل ما كتبه الخبراء حول ثورته المنشودة وملاحظاتهم الموضوعية عليها ونصائحهم لتصويبها وضمانات نجاحها لأن نظامنا التعليمى لم يعد يحتمل هزات جديدة. ثمة رسائل أخرى حملتها نتائج الثانوية العامة أذكرها إيجازا لاعتبارات الحيز المتاح, أولاها ما أصبح شائعاً من أن مؤسسات التعليم الأجنبى تنقض على متفوقينا بالمنح الدراسية لاجتذابهم إلى صفوفها، وهو ما بدا من تصريحات عدد من الأوائل فبعضهم عُرضت عليه منح بالفعل، والبعض الآخر ينتظر أو تقدم للحصول عليها، وهذه ظاهرة ينبغى أن تكون إيجابية بقدر ما تسمح لمتفوقينا بالدراسة فى سياق تعليمى متقدم، لكن الانتباه لجانبها السلبى واجب، فقد أصبحت مصر مرتعا لمؤسسات تعليمية أجنبية عديدة لا تكتفى بمن يتقدم إليها من الموسرين وإنما تتبع بدأب أوائل المدارس الحكومية منذ المراحل الأولى وتغريهم بالمنح وهو أمر طيب دون شك، لكن المشكلة أن هذه آلية مضمونة لاستنزاف العقول المصرية لمصلحة بلدان أجنبية، فعادة ما يتفوق هؤلاء ويكملون تعليمهم فى البلدان التى تتبعها هذه المؤسسات ولا يعودون إلى الوطن، وإمعان الفكر مطلوب فى ماهية المعادلة الصحيحة التى توازن بين الانفتاح على الخارج المتقدم وحماية العقول المصرية من الاستنزاف لمصلحة أوطان أجنبية، والرسالة الثالثة تتعلق بضرورة مواجهة فساد المحليات الذى مازال يسمح بلجان الأكابر التى تُشكر الوزارة على إلغاء امتحانات أصحابها هذا العام، ورغم هذه الرسائل فلا شيء يعدل الأمل فى مستقبل أفضل لمصر بفضل عقول أبنائها وبناتها النابهين الذين استهلوا مشوارهم الطويل بتفوق لافت يبعث على الفخر. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد