تشهد بلادنا هذه الأيام نقاشا حادا وصاخبا حول لجنة صياغة الدستور وتشكيلها. واتفاق هذا التشكيل مع الإعلان الدستوري الذي أصدره العسكر, وسعي القوي الدينية سلفيين وإخوانا للسيطرة علي لجنة الصياغة وهو النقاش الذي يدفع ببعض القوي السياسية للتهديد بمقاطعة عملية صياغة الدستور من الأساس. ولأن أمر العلاقة بين الدين والدستور لم يجر علي قاعدة واحدة حتمية الوجوب في مصر ولا في مختلف دول العالم, إذ إن هناك دولا نصت علي دين الغالبية, ودولا أخري قد اغفلت الإشارة في دستورها إلي أي دين, وهنا سأشير إلي التجربة المصرية. فقد أغفل أول دستور مصري سنة1882 الذي أعد في أتون الثورة العرابية الإشارة إلي الدين علي أي وجه من الوجوه, مدفوعا ربما بوجود عناصر متعددة الأجناس والديانات بين الحكام أو بين الناس, أما دستور ثورة1919, وهو دستور1923, فقد نص في مادته149 علي أن: الإسلام دين الدولة واكتفي بذلك, وفي دستور صدقي1930 نص في مادته138 علي ان دين الدولة الإسلام. ونص مشروع دستور1954 في مادته195 علي أن الإسلام دين الدولة, أما دستور جمهورية الوحدة بين مصر وسوريا سنة1958, فإنه لم ينص علي أي دين, لا الإسلام ولا غيره من الأديان, وعاد دستور1964, لينص علي أن الإسلام دين الدولة من جديد. ومات عبد الناصر1970 وخلفه السادات الذي لم يكن يملك كاريزميته ولا قدرته علي تبني أحلام الجماهير العريضة. وسعي السادات نحو تحالفات جديدة مع الإخوان المسلمين الذين أضيروا في زمن عبد الناصر, ولضمان تأييد الجماعة له كان هذا النص علي مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع. بعد مايقرب من عشر سنوات كانت مدتي حكم رئيس الجمهورية التي تنص عليها المادة77 توشك ان تنقضي, فسعي السادات إلي تأبيد نفسه في الحكم, وكان له ما اراد ففي مايو1980, عدلت المادة الثانية بإضافة الف ولام الي مصدر رئيسي, مقابل أن تعدل المادة77 فتصبح ويجوز انتخاب الرئيس لمدد أخري بدلا من ويجوز انتخاب الرئيس لمدة تالية متصلة وهكذا ننتهي الي ان النص علي الدين في الدستور ليس واجبا شرعيا وليس فرضا دينيا, وانما قد جري تبعا للظروف المختلفة وتوازن القوي وفي ظل مساومات ومقايضات ليست مبدئية, مهدت للاستبداد, وأعانت علي تغييب الديمقراطية الحقيقة وهو الأمر الذي جاء ثورة يناير لتجاوزه, ولتمهيد الأرض أمام ديمقراطية حقيقية. ولاشك ان المبالغة في الإشارة إلي الدين في الدستور ستعصف بتلك القيم جميعا, فسوف تؤسس للتمييز بين المواطنين المسلمين والمسيحيين, وبين الرجال والنساء, فمن المفترض أن الدستور لا يتعامل إلا مع متغير وحيد وهو المواطن, إذ إن وظيفته الحقيقية هي تنظيم علاقة المواطنين ببعضهم من ناحية, ومن ناحية ثانية يؤسس لعلاقة تعاقدية بين المواطنين والدولة تمنح هؤلاء المواطنين جميعا حقوقا وتوجب عليهم واجبات, لا تفرضها علي غيرهم من الاجانب في مصر مقيمين او عابرين, ومن ثم لن يكون هناك معني للتمييز بين المواطنين المسلمين والمسيحيين. كما انها سوف تؤدي إلي لخبطة واختلاط مرجعية المبادئ الدستورية, بين المرجعية الدينية والمدنية والحقوقية, وسوف تؤبد الصراع بين من يري أن الاشارات للدين في الدستور موجهة للمشرعين فقط ومن يري انها موجهة للقضاة والموظفين التنفيذيين. كما أنها ستؤدي إلي نشوب صراع بين مدارس التفسير الاسلامي وهو صراع يعرفه كل من اهتم بالفقه الاسلامي, ولا معني هنا لجعل الازهر هو المرجع لتحديد الشأن الديني في الدستور, إذ سوف يخلق هذا صراعا لا مبرر له بين الأزهر والمحكمة الدستورية, فضلا عن هذا ليس من شأن الأزهر وقانونه لا يلزمه بذلك, والأزهر نفسه يضم داخله توجهات مختلفة بل متناقضة احيانا, وأخيرا فإن للازهر قانونا ينظمه( قانون103 لسنة1961), والقانون كما نعرف جميعا أدني درجة من الدستور, فكيف يكون الأدني مرجعية ومهيمنا علي الأعلي, إن الدساتير تصنع لكي تمنع الصراعات الثقافية والدينية والعرقية والاجتماعية بين المواطنين لا لتزيدها اشتعالا وتؤجج أوارها.