ظلت علاقة الدين بالدولة واحدة من إشكاليات كبري واجهتها الحداثة العربية وعجزت لأسباب كثيرة حتي الآن عن الوصول إلي حل عقلاني لها بعد أن نجحت الدعاية المضادة للعلمانية في مطابقتها في ذهنية الجمهور مع الإلحاد وساهمت فورة النفط الذي تدفق في بلدان الخليج المحافظة في تعقيد المسألة حين تعثرت مسيرة الإصلاح الديني منذ جري نفي ابن رشد وحرق كتبه قبل ثمانية قرون وخسر المجددون في كل جولة من أجل هذا الإصلاح أمام قوة المحافظين وإزداد نفوذ هؤلاء المحافظين مع إنحسار وهزيمة حركة التحرر الوطني التي تلقت ضربة قاصمة في يونيه عام 7691. ومع هذه الهزيمة قامت الجماعات الدينية الشامتة في عبدالناصر بإطلاق حملة دعائية كبيرة تصور الصراع ضد المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين باعتباره صراعاً دينيا بين اليهودية والإسلام. وباتت علاقة الدين بالدولة أشد تعقيداً من ذي قبل مع إزدياد قوة الجماعات السياسية الإسلامية التي ملأت الفراغ الناجم عن تراجع الحركتين الإشتراكية والقومية - بعد انحسار الحركة الليبرالية - وفشلهما معاً في مواجهة إسرائيل وإخفاق مشروعهما المستقل للتنمية. تقول لنا مراجعة دساتير البلدان العربية التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية أنها - باستثناء لبنان ذات الوضع الخاص - قد نصت في مواد متقدمة منها علي أن للدولة دينا هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي للتشريع بينما فصل الدستور السوداني بين الدين والدولة حين جاء في مادته الأولي أن الإسلام دين غالبية السكان أما الدستور العراقي الذي وضع سنة 5002 فأضاف في المادة الثانية نفسها الفقرة (ب) لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام، وأضاف: يضمن هذا الدستور الحفاظ علي الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، ويتضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والزيديين والصابئة المندائيين. وتبرز لنا هذه المراجعة السريعة مجموعة من القضايا الشائكة المترتبة علي تحديد دين للدولة واعتبار شريعته مصدراً للتشريع، وإن حرصت بعض الدساتير مثل الدستور المصري علي النص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. القضية الاولي هي التناقض الذي يعكس نفسه في الواقع بين مواد الدستور وبعضها البعض فالدساتير تنص علي حرية الفكر والتعبير والاعتقاد وهي قيم عالمية مرجعيتها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ولكن المرجعية الدينية تعطل ممارسة هذه الحرية في الواقع وتطالعنا الصحف كل يوم بصور الملاحقة التي يتعرض لها مسلمون تحولوا إلي المسيحية وبهائيون لايعترف بهم القانون العام كمواطنين رغم هذه المادة وقرآنيون لايعتدون بالسنة الخ. بل إن هذه المرجعية الدينية عطلت مواد أخري في الدساتير مثل حرية البحث العلمي. والنموذج الشهير في هذا السياق هو ما حدث للدكتور »نصر حامد أبوزيد« الباحث في علوم القرآن الذي جري توجيه تهمة الكفر والإرتداد له بسبب أبحاثه وحكمت محكمة بتطليقه من زوجته الدكتورة »إبتهال يونس« بدعوي أنها - وهي المسلمة - لايجوز أن تبقي زوجة لمرتد، وذلك رغم أنه من الثابت أنه ما من حد ردة في القرآن الكريم أي أن المرجعية الدينية التي إختارتها الدولة هنا هي محصورة في قراءة واحدة نصية متزمتة ومغلقة، وقتل متطرفون المفكر »فرج فودة« لأنه في نظرهم مرتد، وحاول آخرون اغتيال«، »نجيب محفوظ« »عقابا له علي روايته »أولاد حارتنا« التي تحكي قصة البشرية فاعتبروها تجديفا، ودفع مائتا مثقف جزائري حياتهم ذبحاً ورمياً بالرصاص تحت لافتات دينية بينما هاجر الآلاف منهم. ومن الأردن لفلسطين ومن تونس لمصر جرت ملاحقة كتاب ومبدعين ومفكرين بدعوي خروجهم علي الدين، وجرت مصادرة كتب وأفكار حتي تلك التي كانت تقوم بتحليل النص الديني من داخله وبآلياته ذاتها، وحدث كل ذلك اعتماداً علي مرجعية النص الدستوري. وأخذ الخط البياني للحرية الفكرية في البلدان العربية يميل إلي الهبوط مع اتساع نفوذ الإسلام السياسي في العالم العربي وكان من أثر ذلك تدهور المعرفة التي أساسها الحرية الفكرية وهو ما سجله تقرير التنمية الإنسانية الاول في الوطن العربي الذي حدد ثلاثة عوائق للتنمية علي رأسها هذا التدهور في المعرفة مع التضييق العام علي الحريات كمعوق ثان وتراجع أوضاع النساء كمعوق ثالث. ويشمل هذا التناقض أيضا تلك المواد في الدساتير والقوانين التي تنهض علي المساواة بين الرجال والنساء إذ يعطلها أيضا باسم الشريعة، فنقرأ في المادة 11 في الدستور المصري تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية. وقد تحفظت البلدان العربية كافة علي جوهر الاتفاقية الدولية لإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة أي علي المواد التي تنص علي المساواة وبررت تحفظاتها باسم الخصوصية، والخصوصية هي هنا دينية، وتتضمن هذه التحفظات اعترافا بأن القيم الإسلامية التي تسمي خصوصية هي أدني وأضيق من المشترك العام. وهكذا فرضت قوانين الأحوال الشخصية في الغالبية العظمي من البلدان العربية وصاية أبوية علي النساء باسم النصوص الدينية وبخاصة نص القوامة التي جري تفسيرها في غالبية الأحوال علي أساس أن الرجل ينفق والمرأة تطبع وفسرت الولاية باعتبارها وصاية أبوية ذكورية علي النساء في الزواج والتنقل وفي صيغة المحرم المعمول بها في بلدان الخليج والذي يرافق المرأة العاملة ويحرسها امتهان شامل لإنسانية المرأة وإنكار لحقوق المواطنة وهي جميعاً أطر بالية أخذت بعض الحكومات تراجعها بجسارة معتمدة قراءة مستنيرة وعصرية للنص الديني، لأن إختزال العلاقة داخل الأسرة في الإنفاق والطاعة وما تجره الطاعة خلفها من مفاهيم مثل النشوز ومن إجراءات مهينة مثل إحضار المرأة عن طريق الشرطة ماتزال نساء كثيرات يتعرضن لها حول العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة إلي ما يشابه العبودية وشوه محتواها المفترض أنه قائم علي المودة والرحمة. بل وبرز تناقض آخر بين هذه النصوص وبين واقع الحياة بعد أن تزايدت أعداد النساء اللاتي يٌعلن أسر وأتسع نطاق مساهماتهن في الانفاق المشترك علي الأسر مما حدا ببعض الدول العربية إلي السعي لإصدار تشريعات جديدة في ميادين الأحوال الشخصية موضوعية وإجرائية لمعالجة الثغرات بل الخروق القانونية التي أدت إليها قوانين بالية تجاوزها واقع التطور الإنساني ورغم تفاوت هذه الإصلاحات في الجرأة والشمول إلا انها بقيت جميعاً في إطار معالجة جزئيات والقوانين لا فلسفتها وبقيت الغالبية العظمي من الدول العربية متشبثة برفضها وضع قوانين مدنية للأحوال الشخصية تقوم علي مباديء المواطنة والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، رغم أنها أسست منظومتها القانونية الاخري علي القانون المدني، بل أن الدولة اللبنانية التي لا نص علي دين للدولة في دستورها عجزت عن إقناع الطوائف الدينية الثمانية عشر بالقانون المدني الموحد للأحوال الشخصية لأن الطوائف وضعت كل منها قانونا خاصا بها للأحوال الشخصية وأصبح الباحثون والناشطون من أجل القانون المدني الموحد عاجزين عن مخاطبة هذه الطوائف بعد صياغة مشروع قانون إشتغل عليه المئات منهم وكانت النتيجة - كما يقول بعضهم بأسي - هي وجود تسعة عشر قانونا للأحوال الشخصية وذلك بعد إضافة مشروع القانون المدني الموحد لما هو قائم. ستبقي إذن معركة الدولة المدنية في العالم والتي تؤسس شرعيتها علي مفاهيم المواطنة والديموقراطية والحريات العامة مستلهمة المواثيق الدولية دون النص علي مرجعية دينية ستبقي مسألة صراعية نضالية طويلة المدي تستدعي جهود كل المفكرين الشجعان والقوي الديموقراطية والعلمانية والدينية المستنيرة ويقع علي القوي الأخيرة عبء الجهد المطلوب من أجل علمنة الإسلام الذي ينطوي علي أسس قوية لمثل هذه العلمنة.