من الدلائل المبشرة بنقلة حضارية في مصر قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي زيادة نسبة السيدات في الوزارة الجديدة بعد أن سبق له زيادتها في ولايته الأولى، هذا فضلا عن اختياره لهن من بين النخبة العالية الثقافة والمشهود لهن بالكفاءة في مجال العمل الدولي والقومي على حد سواء. وهذا الاختيار يمثل بلا شك صفعة لأصحاب النظرة الدونية للمرأة والتي هي من أهم مظاهر التخلف الحضاري في مصر. ولا يخفى أن هذه النظرة الدونية لا تزال تسيطر على الأذهان ، مما وصل إلى حد تحدي بعض مؤسسات الدولة لأحكام الدستور برفض تعيين المرأة مهما تكن جدارتها مخالفين بذلك أحكام الدستور التي تحَرم التمييز القائم على الجنس أو الدين أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. ويحضرني في هذا المقام تجربة طريفة وقعت خلال فترة الخلاف حول اشتغال المرأة المصرية بالقضاء في أول هذا القرن، إذ كنتُ قد كُلِفتُ خلال عملي بالقضاء الدولي بصحبة وفد من القضاة الدوليين بزيارة مصر للتعرف على أسباب رفض مصر السماح للمرأة بتولي منصب القضاء، وتم ترتيب لقاءات مع نخبة من رجال القضاء المصري الذين تباروا في محاولة إقناع الوفد الدولي بعدم صلاحية المرأة للعمل بالقضاء تأسيسًا على عدم قدرتها على تحمل العمل الشاق ماديًا ونفسيًا، فضلا عن أن مشاعرها المرهفة لا تتناسب والعديد من أوجه مهنة القضاء. غير أنَّ أعضاء الوفد الدولي وقع في روعهم أن تلك التأكيدات تخص المرأة المصرية فحسب، إذ أن المجتمع الدولي قد نبذ تلك النظرة الدونية للمرأة منذ ما يقرب من قرن. ومما زاد من فداحة تلك المفارقة أنَّه في نفس الوقت الذي كان يستمع فيه الوفد الأجنبي إلى الحجج المقدمة لإثبات عدم كفاءة المرأة للاشتغال بالقضاء كانت المحكمة الدولية لجرائم الحرب تحت رئاسة سيدة وكان منصب المدعي العام تشغله أيضًا سيدة. وقد حققت المحكمة في هذه الفترة أكبر نجاح في تاريخها إذ تم إلقاء القبض على رئيس دولة أوروبية كبرى وتقديمه للمحاكمة بتهمة الإبادة الجماعية، وهو حدثٌ دولي لم يسبق له مثيل. وليس بمستغرب في الواقع قناعة الأجيال المتتابعة في المجتمع المصري بدونية المرأة، فقد تشربت كل هذه الأجيال بتعليم قائم على هذا الفكر، بل إنَّ هذا الفكر يتزايد كما تشير دراسات المركز القومي للمرأة التي بينت أن نحو 1.5 مليون امرأة مصرية تُعامل معاملة غير آدمية ويتعرضن لكل أنواع العنف المادي والمعنوي من جانب الزوج، أو من أفراد الأسرة، وكثيرًا ما تبدأ هذه النظرة الدونية للأنثى من فترة طفولتها، وذلك برفض الأسرة تعليم البنت بنفس درجة تعليم الابن تأسيسًا على أن دور الفتاة الأساسي في الحياة هو السهر على راحة الأسرة والزوج. وقد لمستُ منذ قيامي بالتدريس بكلية الحقوق بجامعة القاهرة قدرات الطالبات وتفوقهن خلال سنوات الدراسة، وكذلك جدارتهن في معترك العمل سواء في المجال السياسي أو القانوني أو القضائي أو المدني. كما شهدت عن قرب خلال رئاستي للجنة القومية لتقصي أحداث ثورة 30 يونيو 2013 كفاءة عضوات هذه اللجنة وشجاعتهن إذ غامرت بعضهن بحياتهن في سبيل الحصول على ما يلزم من أدلة بشأن الجرائم المرتكبة. كما يحضرني كذلك ما قامت به القاضية الجليلة تهاني الجبالي من تصدٍ للديكتاتور محمد مرسي ومنعها له من مخالفة أحكام الدستور. إن كل مواطن واعٍ حريص على مستقبل هذا الوطن يجدر به السير على نفس النهج الوطني الذي اتبعه رئيس الدولة في تشكيله لحكومته وذلك كلما حانت الفرصة له لاختيار من يمثله في أي من المجالس أو الهيئات ذات التأثير على حياة الوطن ومستقبله، ورفضه الخضوع للعوامل الموروثة اجتماعيًا كانت أو أسرية وعلى رأسها النظرة الدونية للمرأة، والتفرقة القائمة بين الرجل والمرأة على أسس تتنافى مع كرامة الإنسان والصالح العام. ولا يخفى أنَّ إزالة العقبات التي تحول دون تعبير المرأة عمَّا تملكه من قدرات تمكنها من أداء دورها القومي أمرٌ قد لا يكفي فيه اختيار نخبة متميزة للمشاركة في الحكم. ذلك أنَّ هذا الأمر يتطلب في المقام الأول التدخل الحاسم من جانب المُشَّرِع لإصدار القوانين واللوائح اللازمة للمحافظة على حقوق المرأة، وتمكينها من التعبير عن جميع إمكاناتها دونما عقبات. ولا يكفي في هذا المقام تضمن الدستور لأرقى مبادئ حقوق الإنسان، وكذا إصدار المشَّرِع للتشريعات اللازمة لإعمال هذه المبادئ بالتفصيل، وكذا توقيع الجزاء الرادع على من يخالفها. ولعل أول تدخل فعلي في هذا الصدد هو أخذ مجلس النواب بعين الاعتبار مشروع القانون المقدم من المجلس القومي للمرأة، ويقضي هذا المشروع بمعاقبة أي مرتكب للعنف ضد المرأة بالحبس لمدة لا تقل عن عام، ويعرف المشروع العنف ضد المرأة على أنه أي فعل أو سلوك يترتب عليه أذى أو معاناة مادية أو معنوية للمرأة أو الحط من كرامتها بما في ذلك التهديد أو القذف أو مواقعة الأنثي دون رضاها، أو الاعتداء الجنسي أو التحرش أو الحرمان من الميراث ويتضمن مشروع القانون كذلك عقاب كل من ارتكب عنفًا ضد المرأة، كذلك يتعين إخراج المشروع الذي سبق أن تقدم به المجلس القومي لحقوق الإنسان منذ أوائل هذا القرن من أدراج سلطات الدولة المعنية، وهو المشروع الذي يقضي بتأسيس مرصد رفيع المستوى للكشف عن جميع أنواع التمييز المرتكبة في مختلف المجالات من رسمية ومدنية، وملاحقة مرتكب أي نوع من التمييز أمام القضاء أيًا كانت مكانته السياسية أو الاجتماعية، وإعمال الجزاء الرادع لمنعه من تكرارها على أن يكون هذا المرصد متمتعًا بكامل الاستقلال حتى لا يتم التأثير عليه أو الحيلولة دون قيامه بمهمته التي أصبحت أمرًا لا غنى عنه بحال من الأحوال. لمزيد من مقالات د. فؤاد عبد المنعم رياض