الحقيقة التى يجب أن نواجهها أن تغلغل الفكر السلفى بين أعضاء مجلس الدولة قد أصبح أمرا معلوما ومؤرقا للجميع، ليس فقط برفض تعيين المرأة قاضية بالمجلس وليس فقط منذ أن فاجأنا المجلس بانتصاره للنقاب، بل منذ سنوات عديدة حيث إن بعض السادة المستشارين لا يتحرجون من الإعلان عن مرجعيتهم الدينية وآرائهم السلفية المتشددة فى العديد من وسائل الإعلام، والتى تكشف عن الخلفية الحقيقية لهذا القرار. فلازلنا نذكر مثلا تصريح المستشار يحيى راغب دكرورى رئيس النادى والذى رفض فيه تعيين المرأة قاضية لمخالفة ذلك أحكام الشريعة الإسلامية لما يقتضيه عمل القاضية من إغلاق غرفة المداولات عليها مع قاضيين أو أكثر مما يعتبر خلوة غير شرعية. كذلك مقال المستشار مجدى الجارحى السكرتير العام المساعد لنادى قضاة مجلس الدولة بتاريخ 1/3/2007 بعنوان: تعيين المرأة فى القضاء.. حرام شرعاً! والذى تضمن رؤية سلفية موغلة فى الرجعية تهز أركان الدستور والدولة المدنية معا. فلقد أعلن المستشار الجارحى فى هذا المقال أن مرجعية مجلس الدولة هى مرجعية دينية إذ يقول لا فض فوه: «أجمعت آراء المذاهب الأربعة على عدم جواز تولى المرأة القضاء .. والمادة الثانية من الدستور الحالى نصت على أن «الإسلام دين الدولة .. ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، ومن ثم يكون تعيين المرأة قاضية مخالفاً للدستور .. يأثم من يفعله'' !!. هكذا بجرة قلم أبطل المستشار ولاية الدستور على مواده، وجعل للمادة الثانية فى الدستور الولاية على الدستور كله!؟ كذلك لا نستطيع أن ننسى الحكم الذى أصدره المستشار عبدالرحمن عزوز رئيس المجلس بتأييد قرار لجنة شئون الأحزاب بعدم الموافقة على تأسيس حزب مصر الأم لتعارضه مع الدستور ومبادئ الشريعة الاسلامية، وقد ظهرت النكهة السلفية واضحة فى حيثيات الحكم إذ قالت: إن الحزب اصطدم فى برنامجه بنصوص صريحة ومبادئ راسخة فى الدستور ومع الشريعة الإسلامية حيث طالب بإلغاء المادة الثانية من الدستور وأشار إلى عدم أهمية ذكر الديانة فى المحررات الرسمية وأن العبرة بالوطن وليس بالدين، وأن الحزب يدعو إلى العلمانية. إذن فقرار رفض تعيين الإناث فى الوظائف القضائية لم يأت من فراغ، وإنما فى إطار ردة سلفية تعترى مجلس الدولة، وتكتسح فى أروقته قيم الدولة المدنية والحداثة، وتزدرى أيضا كل نزعات التجديد والاجتهاد فى الفكر الدينى حيث لم يكن لآراء شيخ الأزهر وفتاوى د.على جمعة واجتهادات الشيخ يوسف القرضاوى ود. سليم العوا التى أجازت عمل المرأة فى وظائف النيابة والقضاء أى ذكر أو أثر فى هذا القرار أو ما سبقه ولحقه من تصريحات ومقالات، بل كانت فتاوى أبوإسحاق الحوينى وأضرابه هى سيدة الموقف والمرجعية الآمرة. إن البيان الذى صدر عن الاجتماع يكاد يكون تكرارا حرفيا لفتوى أبو إسحاق الحوينى بتحريم تولى المرأة للقضاء لأن الأصل أن تستتر المرأة ولا تبرز للرجال، بينما القاضى لابد أن يتعرض للخصوم وأن يناقش هذا وذاك وليس هذا من صلاحية المرأة، وفتوى محمد حسان بأن تبقى المرأة فى بيتها إذا لم تكن فى حاجة مادية ملحة للعمل، والتى لا تختلف عن تعاليم الإخوان القديمة التى يرددها الشباب اليوم حيث يقول حسن البنا: إن مهمة المرأة زوجها وأولادها..أما ما يريده دعاة التفرنج وأصحاب الهوى من حقوق الانتخاب والاشتغال بالمحاماة فنرد عليهم بأن الرجال وهم أكمل عقلاً من النساء، لم يحسنوا أداء هذا الحق، فكيف بالنساء وهن ناقصات عقل ودين. ويقول سيد قطب: إن خروج المرأة لتعمل كارثة قد تتيحها الضرورة. ويقول محمد سعيد البوطى: لا تنزل المرأة إلى ميدان العمل من أجل الرزق إلا فى أضيق الظروف والحالات الضرورية. وليقارن معنا القارئ بين نظرة هؤلاء الإخوان والسلف المستوردة من صحراء التشدد المحقرة للمرأة، وبين ما كتبه باعث النهضة العربية الحديثة رفاعة رافع الطهطاوى فى منتصف القرن التاسع عشر، قبل عهد البترودولار، داعيا للمساواة بين الرجل والمرأة، ولمساهمة كل أبناء الوطن فى بنائه فيقول العلامة المسلم بالنسبة للفروق المدعاة بين الرجل والمرأة: إذا أمعن القائل النظر الدقيق فى هيئة المرأة والرجل فى أى وجه من الوجوه لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر فى الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما، ثم إن للمرأة، بغض النظر عن تباين الجنس، صفات أخرى تتميز بها عن الرجل. وعمل المرأة عند الطهطاوى حق وواجب بل وفضيلة، وليس لمجرد الارتزاق كما يرى هؤلاء المتطرفون فيقول: العمل يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، ويصون المرأة عما لا يليق بها ويقربها من الفضيلة، فإن اليد الفارغة تسارع إلى الشر والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم. إننا لنشعر بالأسى ونحن نرى أبناءنا يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير، ويبيعون الثريا بالثرى، فيهملون تراثنا العظيم وينهلون من بئر مالحة مسمومة يهجرها اليوم أصحابها. إننا لنبرأ إلى الله أن تصدر هذه النظرة الذكورية الدونية تجاه المرأة من مصر صاحبة أعرق حضارة فى التاريخ، فى الوقت الذى تتعافى اليوم من مثلها الكثير من المجتمعات التى كانت حتى الأمس القريب غارقة فى البداوة، حيث يتم تعيين قاضيات فى دولتى الإمارات العربية والسودان وغيرهما، كما تم تعيين قاضيتين شرعيتين فى فلسطين، ناهيك عن أكثر الدول الأفريقية والآسيوية. إننا نتطلع لشيوخ القضاء المصرى بمجلس الدولة يحقوا الحق، وأن ينتصروا لقيم الدولة أن المدنية الحديثة، وألا يسلموا الوطن لمن يرتد به قرونا إلى الوراء.