لم يكن غريبا أن تنادى بريطانيا وغيرها من دول الغرب بمقاطعة بطولة كأس العالم لكرة القدم التى تنظمها روسيا من 14 يونيو إلى 15 يوليو، بعد اتهام لندن المخابرات الروسية بمحاولة تسميم العميل الروسى السابق أندريه سكريبال على الأراضى البريطانية فى مارس الماضي. فهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى تتدخل فيها السياسة فى الرياضة. فقد سبق أن قاطعت الولاياتالمتحدة والعديد من دول المعسكر الغربى دورة الألعاب الأوليمبية التى نظمها الاتحاد السوفيتى 1980 احتجاجا على غزوه لأفغانستان. كما قاطع الاتحاد السوفيتى وبعض دول الكتلة الشرقية الدورة الأوليمبية التى نظمتها الولاياتالمتحدة عام 1984 ردا على مقاطعة أوليمبياد موسكو. وقد انتهجت بريطانيا فى نهاية الأمر مسلكا براجماتيا حينما أعلنت مقاطعة العائلة المالكة وأعضاء الحكومة كأس العالم، بينما سمحت لمنتخبها الوطنى بالمشاركة. وحذا حذوها بعض الدول الأوروبية الحليفة التى أعلنت مقاطعة دبلوماسية للحدث. كما أعلنت بريطانيا طرد ثلاثة وعشرين دبلوماسيا روسيا كإجراء عقابي. وتبعتها 27 دولة غربية، خاصة الولاياتالمتحدة، حيث تم طرد 160 دبلوماسيا روسيا. وردت موسكو باستبعاد أعداد مقاربة من الدبلوماسيين الغربيين، فى أكبر عملية طرد متبادلة للدبلوماسيين منذ الحرب الباردة. وإذا كانت حادثة تسميم الجاسوس هى التى بررت طلبات المقاطعة ومعاقبة موسكو، فإنها ليست سوى قمة جبل الجليد الذى يخفى أسفله سلسلة من التطورات السلبية التى طرأت على العلاقات بين روسيا والمعسكر الغربى منذ أن فازت موسكو بتنظيم كأس العالم فى ديسمبر 2010. وأضفت تلك التطورات على العلاقات بين الطرفين ما أصبح يطلق عليه «الحرب الباردة الجديدة». وقد بدأ التدهور بالتدخل الروسى فى الأزمة الأوكرانية وضم موسكو شبه جزيرة القرم فى 2014، وما تلاه من اتهامات غربية لروسيا بالدعم العسكرى للحركة الانفصالية فى شرق أوكرانيا. وقد فرضت الدول الغربية عقب ذلك مجموعة من العقوبات على روسيا احتجاجا على ما اعتبرته سياستها العدوانية والتوسعية. وشكل التدخل العسكرى الروسى فى النزاع السورى منذ سبتمبر 2015 قضية الخلاف الثانية بين موسكو والغرب، إذ هرعت موسكو لنجدة الرئيس بشار الأسد بينما كان المعسكر الغربى يساند المعارضة المسلحة. وقد أدى التدخل الروسى إلى قلب الموازين تدريجيا لصالح القوات الحكومية وتمخض عن ذلك وجود مسارين متنافسين للتسوية السياسية، أحدهما فى جنيف بمساندة القوى الغربية، والآخر فى أستانا برعاية موسكو. ويضاف لماسبق الاتهامات التى وجهت لروسيا بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 ضد مرشحة الحزب الديمقراطى هيلارى كلينتون، التى كانت تعادى موسكو. وهى الاتهامات التى يفسرها السياسيون فى الغرب بأنها محاولات للتدخل فى الشئون الداخلية لبلادهم خدمة لمصالح موسكو ولإضعاف أنظمتها الديمقراطية من خلال التلاعب بالرأى العام. والواقع ان اتهامات الغرب لروسيا تندرج فى إطار جهود دولها لمواجهة محاولات موسكو للعودة لممارسة دور مؤثر فى السياسة الدولية من جديد. ولا يخفى الرئيس فلاديمير بوتين تطلعه لاستعادة مجد بلاده ودورها العالمى السابق. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر 1991، انكفأت روسيا على ذاتها، منشغلة بإعادة هيكلة البلاد ونظاميها الاقتصادى والسياسي. ومنذ تولى بوتين مقاليد السلطة عام 2000، بدأت روسيا تسعى تدريجيا لممارسة دور عالمى يليق بقدرات الدولة من النواحى التاريخية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. وكانت روسيا قد بدأت فى ذلك الوقت تسترد عافيتها الاقتصادية بعد سنوات التراجع. وكان منطقيا وفقا لهذا التصور الجديد للقيادة الروسية أن تسعى موسكو لمد نفوذها خارج حدودها حفاظا على مصالحها. وكان منطقيا أيضا نتيجة لذلك أن تبدأ فى الاصطدام بمصالح القوى الغربية المهيمنة. إن حملة التشويه التى مارسها الغرب ضد روسيا قبل أسابيع قليلة من انطلاق مسابقة كأس العالم تهدف للحد من التأثير الإيجابى المتوقع لتنظيم تلك البطولة على صورة روسيا داخليا وخارجيا. فروسيا لديها عدة أهداف من تنظيم كأس العالم أهمها دعم صورتها كقوة كبرى فى عالم اليوم لديها القدرة على تنظيم الحدث الأهم فى عالم الرياضة. وهى تعلم أن البطولة يتابعها الملايين حول العالم، فضلا عن آلاف المشجعين من مختلف الدول المشاركة المتوقع حضورهم المباريات. ولذلك فإن أول أهدافها هو تجاوز الصورة الدولية السلبية التى يسعى الغرب لترويجها. وفى المقابل، تسعى موسكو من خلال الصورة الإيجابية المتوقع إنتاجها بفضل تنظيمها الجيد لكأس العالم، لتجاوز آثار تلك المرحلة من الخلافات مع الغرب. وكثيرا ما عبر الدبلوماسيون الروس خلال لقاءاتهم بنظرائهم الغربيين عن رغبتهم فى إعادة بناء العلاقات و«تجاوز الخلافات». وهكذا تسعى روسيا من خلال تنظيم الحدث الرياضى الأهم والأكثر متابعة فى العالم للتأثير إيجابيا على الرأى العام العالمي، وخاصة الغربي، وعلى ملايين المشاهدين عبر التليفزيون وآلاف المشجعين القادمين من الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجارى للبلاد. وعلى الصعيد الداخلي، تأمل موسكو فى جذب الاستثمارات وتشجيع السياحة. ولا يقل أهمية عن ذلك، ما ينتظر أن يؤدى إليه التنظيم الناجح للبطولة فى ظل هذه الأجواء المعادية من الغرب، من تعزيز المشاعر الوطنية بين الروس وترسيخ قناعتهم بدولتهم كقوة عالمية صاعدة، بالإضافة إلى دعم سلطة بوتين وصورته أمام مواطنيه خاصة الشباب منهم، إذ يظهر قدرة السلطة الحاكمة على مواجهة الضغوط والعقوبات وكفاءتها فى تنظيم حدث رياضى هو الأهم والأكثر شعبية على مستوى العالم. لمزيد من مقالات ◀ د.هشام مراد