كان طبيعيا في وسط هذا الزحام والضجيج الشديد وحالة الصخب الواضحة التي أصبحت عليها جميع المسلسلات تقريبا، أن نهرب إلى أي مسلسل يبعدنا ولو قليلا عن كل هذا الزخم المسمى بالدراما الرمضانية، بينما هو بعيد كل البعد عنها!. المهم أنه أخيرا وبفضل العناية الإلهية التي ترأفت بنا فأنقذتنا بهذا المسلسل الرائع "ليالي أوجيني"، الذي وجدنا فيه ضالتنا المنشودة، من حيث الهدوء والسكينة والرقي والجمال والجودة في كل شيء. وقبل أن نتغزل في محاسن المسلسل يكفينا بداية أنه ربما يكون هو الوحيد الذي جاء خاليا بما تمتلئ به باقي المسلسلات الأخرى من سلبيات لا تعد ولا تحصى، فلم نر فيه مثلا كل هذه الدماء التي سالت بحورا على أرض غالبية مسلسلاتنا تقريبا، كما لم نشاهد فيه أيضا وصلات الردح بين الأبطال وبعضهم البعض!. كما لم نلمح فيه أيضا تلك الملابس العارية كحال عدد لا بأس به من الأعمال الرمضانية وغيره وغيره من القتل والعنف والإرهاب وكل هذا الكم المخيف من الأسلحة والذخيرة والبارود والمتفجرات، التي لو صمتنا عنها أكثر من ذلك سيأتي اليوم وتنفجر في وجوهنا نحن المشاهدين، وعموما سوف نتحدث عن كل ذلك باستفاضة لاحقا!. أما "ليالى أوجينى" فكل شيء فيه مختلف تماما، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إنه فعلا يعد تحفة فنية كاملة ومكتملة العناصر بداية من أغنيته الساحرة "حبى ليك" للمطربة نسمة محجوب ومرورا بأحداثه التي تأخذنا إلى مرحلة الأربعينات، وما أدراك ما سحر الأربعينات وشياكة ناسه وفخامة أماكنه، فما بالنا عندما يكون مخرجه عبقرى مثل "هاني خليفة"، الذي برع في نقل هذه الأجواء الخرافية بكل تفاصيلها، فالشوارع هي نفسها في الأربعينات، وكذلك البيوت التي جاءت متطابقة تماما لنفس شكل المنازل ببور فؤاد في تلك المرحلة. كل تفاصيل تلك الفترة الزمنية نقلها هاني خليفة دون أن يترك وراءه أى خطأ واحد قد يؤخذ عليه كما هو الحال في غالبية المسلسلات الأخرى!. رتم الهدوء كان هو شعار المسلسل الذي بنيت عليه كل الأحداث، ولكن بدون أن يتسرب إلينا أي شعور بالملل، حيث تناول ببراعة شديدة حياة بعض الأسر التى تعيش في بورسعيد، كما تناول أيضا الفروق الطبقية بين عالمين مختلفين من البشر فهناك الطبقة الغنية الأرستقراطية، وهناك أيضا الأسر الفقيرة والمتوسطة، ولأننا لا نعيش في تلك المدينة الفاضلة، لذا فمثل هذا الصراع الطبقي كما هو موجود بيننا الآن فطبيعي جدا أنه كان له جذوره الممتدة منذ الأربعينات أيضا. المسلسل في الأساس قائم علي الرومانسية التي باتت مفقودة بفعل فاعل من كل أعمالنا الدرامية، من خلال قصة الحب العنيفة بين بطلي العمل الدكتور فريد، الذي يعيش في مدينة بورسعيد بحكم عمله، وكريمة الهاربة من القاهرة بسبب جريمة قتل زوجها، وفي ظل هذا الجو العاطفي الممزوج ببعض مشاهد الشجن الجميل يظل المشاهد متلهفا فيما ستسفر عنه تلك القصة العاطفية الجميلة. أبطال المسلسل كانوا أحد أهم أسباب نجاحه، فبخلاف ظافر عابدين الذي جاء اختياره موفقا تماما من حيث الوسامة وشكله الذي يتناسب تماما مع تلك المرحلة ونفس الأمر ينطبق على الجميلة أمينة خليل. أما المفاجأة الحقيقية فلم تكن في هؤلاء الأبطال السابقين وإنما في أداء باقي النجوم الذين أجادوا لدرجة جعلتهم يتفوقون على الأبطال الرئيسيين، بداية من إنجي المقدم التي لفتت الأنظار بشدة من خلال دور الإيطالية "صوفيا"، والتي يعتبر المقهى الخاص بها هو محور التقاء العديد من الأبطال وبعضهم البعض، بينما البعض الآخر منهم كان على موعد في تياترو "ليالي أوجيني"، والتي أجادت بدور المنولوجست فيه ببراعة الوجه الجديد أسماء أبو اليزيد، وأعتقد أن هذه الممثلة الصغيرة سيصبح لها شأن كبير قريبا لما تتمتع به من موهبة تلقائية متفجرة. باقي النجوم أجادوا جميعا أيضا في أدوارهم مثل ليلي عز العرب ومراد مكرم ومريم الخشت وكارمن بصيبص وبطرس غالي وانتصار والفضل فى هذا يرجع في الأصل للكتابة الجيدة التى ورغم كونها مأخوذة عن إحدى الفورمات الإسبانية إلا أنه وبسبب السيناريو والحوار الرائع والمتماسك والتمصير المتميز لكل من إنجي القاسم وسما عبد الخالق. هناك من يشبه "ليالي أوجيني" بالمسلسل الرائع "جراند أوتيل" ومعهم حق فهناك تشابه بينهما حقا، ولكن ليس في كل العناصر وإنما عنصر واحدا فقط وهو التميز والإتقان الشديد في الحبكة والإخراج والتفاصيل، والأهم من كل ذلك هذا الجو الأسطوري الذى نقلنا بكل سلاسة لعبق الماض الجميل. لذا وإذا كنا نفتخر بوجود روائع الدراما عندنا من نوعية زيزينيا وهوانم جاردن سيتي وجراند أوتيل فها هي المكتبة قد أُثريت الآن برائعة جديدة أخرى هى "ليالي أوجينى"، ولعل صناع الدراما وبعد استحواذ المسلسل على مشاعر وعقول معظم المشاهدين يعودوا لصوابهم ويعلموا أن الجماهير متعطشة لتلك الأعمال الجميلة الراقية، والتي طالما كنا وحتى وقت قريب نفتخر بها، أما الآن وبسبب ما يقدمونه لنا في أعمالهم المليئة بالقبح والفجاجة الدخيلة علينا وعلى الدراما المصرية أصبحنا نتبرأ منها وننفر ونتهرب من مشاهدتها!. [email protected] لمزيد من مقالات علا السعدنى;