عندما يدعوني عارض للتفكير في أحوال المستضعفين من أبناء مصر, ويحدث بلا مبالغة عشرات المرات في اليوم تلح علي مقولتان للإمام علي. الأولي هي الفقر هو الموت الأكبر وكم صدق, فالفقير يموت في اليوم عشرات المرات, هو الحي الميت إن شئت, والمقولة الثانية هي ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار. فيا عزيزي القاريء, كم يوما أدمي قلبك مشهد طفلة صغيرة شعثاء تلاحق سيارة ممسكة بقطعة متسخة من بقايا ثياب رثة تحت شمس الظهيرة المحرقة أملا في نفحة قليلة؟ أو امرأة عجوز تستجدي فتاتا ببيع عبوات مناديل ورقية تحت المطر في زمهرير الشتاء؟ أو حطام سيدة مسكينة ومسنة, تحمل بيد مرتعشة روشتة علاج متهرئة تستجدي إكمال قيمتها لابنتها التي تعاني من داء عضال؟ أو بقايا إنسان من متحدي الاعاقة يخاطر بحياته علي كرسي متحرك أو زحفا وسط السيارات المندفعة أملا في حسنة ما ربما لمجرد سد الرمق؟ ولا يؤذيني قدر شقاء أطفال الشوارع لاسيما بنات الشوارع وأبنائهن من مواليد الشوارع اللاتي يحملن بهم اغتصابا وسفاحا ثم يضعن حملهن في الشوارع. مثل هذه الظواهر تنفي عن أي مجتمع أي إدعاء بالتنمية أو الإنسانية أو الإسلام الذي يتسربل به الجميع, أحيانا زورا وغالبا لغرض, هذه الأيام. أدري أن بعض القراء يظنني الآن ساذجا من منطلق أن مثل هؤلاء ليسوا إلا محتالين وأن بعضهم يجني أموالا طائلة من هذه النشاطات التي يفضلونها علي العمل الجاد لربحيتها العالية, ولا أخفي أن الفكرة نفسها قد راودتني عندما واجهتني مواقف مثل هذه وكنت أرد علي نفسي بمنطقين. الأول أنني أفضل أن أكون ساذجا, وأمني بخسارة مالية قليلة, علي أن أكون مخطئا لو كانت الحاجة الدافعة للاستجداء حقيقية ووزر منع الإحسان حينها ثقيل, والثاني أن مذلة السؤال في مثل هذه الأحوال تنطوي علي انتقاص من كرامة الإنسان ومن ثم نوع من الفقر, وقلة الحيلة, ينطوي علي مرارة يتجرعها السائل هربا من مرارة أشد أو ليس هذا سببا قويا لتغليب نزعة الاحسان إلي السائل؟ في مجتمع فاضل, تقوم فيه دولة قادرة تعد مسئولة أمام مواطنيها ومن ثم تحترم آدميتهم يتعين علي الدولة أن تضمن ألا يضطر إنسان علي أرضها لمثل هذه الأفعال الحاطة من كرامة البشر وأن تضمن علاجها بسرعة ومراعاة الكرامة الإنسانية في ذلك متي ما وقعت من خلال شبكة قوية وفعالة لحماية الأمن الإنساني في المجتمع. ولكن يخامرني الشك في أن الحكم التسلطي الفاسد, والقوي السياسية المتنافسة علي السلطة يتعمدون الابقاء علي الفقراء رازحين في فقرهم كي يتسني استغلال حاجتهم في ابتياع ولائهم وحتي أصواتهم الانتخابية في المواسم السياسية من خلال الرشي, التي مازالت متفشية حتي بعد الثورة. وفي حالة ضعف الدولة أو تهاونها يفترض أن تقع مهمة حماية الفقراء من امتهان كرامتهم البشرية بالاستجداء علي عاتق العمل الأهلي من خلال منظمات المجتمع المدني, وذلك حتي لا يتوقف الحفاظ علي كرامة بني آدم الذي كرمه الله فوق جميع المخلوقات علي إحسان المحسنين الفرادي وأمزجتهم. ولكن الدولة في مصر غائبة أو مختطفة لمصلحة تحالف الاسلام السياسي وقيادات المؤسسة العسكرية ولا تلقي بالا للمستضعفين الذين قامت الثورة الشعبية العظيمة لانصافهم. والمجتمع المدني الراهن لم يرق لمستوي التحدي بشاهدين. الأول استفحال ظاهرة الفقر والاستضعاف, والثاني تحويل الإحسان إلي صناعة وتجارة مربحة لجمعيات أهلية بعينها, بدليل الملايين التي ينفقونها علي إعلاناتهم عن أعمال الخير التي يقومون بها واستجلاب التبرع لها, خاصة في شهر رمضان. ولا يجب أن ننسي في هذا المجال غول الغلاء الجامح الذي يطلقه علي المطحونين في مصر جشع التجار, خاصة المحتكرين للأسواق, وتهاون الدولة والمجتمع المدني كليهما, في القيام بمهمة ضبط الأسواق وكبح جماح الأسعار لصيانة مصالح المستهلكين وحماية المصلحة العامة فالغلاء الجامح, فوق تحطيم عظام المستضعفين, ينتهي بتقليل الاستهلاك وتضييق نطاق السوق وانكماش النشاط الاقتصادي, فيضر حتي بمن تسببوا في هذه الظواهر السلبية بجشعهم الأناني. ولا تتوقف مسئولية الدولة عند هذا الحد من إهمال مسئوليتها في ضبط الأسعار وإنما تمعن بعض أجهزتها في التدليس علي المواطنين بافتعال معامل خداع قوي في الأرقام الرسمية عن التضخم أو غلاء الأسعار, فقد أعلن الجهاز الرسمي المسئول عن الإحصاء منذ اسبوعين أن معدل التضخم تراجع لأقل مستوي في5 سنوات حتي أصبح أقل من5% في السنة, تصوروا! وهل من يقول ذلك إلا مخدوع أو مخادع؟ فقد رصدنا في السنة الماضية زيادة أسعار بعض سلع الاستهلاك الأساسية بمعدل الضعف في الشهر الواحد, ومن لم يرفع سعر السلعة من التجار قلل الكمية أو خفض النوعية من الابقاء علي السعر نفسه, والنتيجة واحدة هي عين المستهلك وافقار أشد للشرائح المطحونة من الشعب. إذن الاجابة الصادمة علي سؤال العنوان هي ببساطة لا أحد! المستضعفون في مصر متروكون ليواجهوا الإفقار والاستضعاف وغول الغلاء بلا سند أو معين, ثم بعد ذلك يلومهم البعض إن أساء بعضهم أو انحرف. لا أحد لهم في السلطة: لا الرئيس ولا جماعته ولا المجلس العسكري وحكومته, يهتمون لأمر المستضعفين في مصر, باستثناء الحسنات الموسمية التي يجيدون استغلالها لمغانم سياسية, هم فرحون بدخولهم المرتفعة وثرواتهم المتراكمة, بينما يتركون المستضعفين للبطالة والغلاء الجامح ينهش عظامهم, والأسوأ أنهم جميعا يستغلون فقر وتعاسة المطحونين أبشع استغلال لأغراضهم السياسية الضيقة الأفق وعمياء البصيرة. ومادام الحكم التسلطي الفاسد مهيمنا علي مصر فلن نتوقع من الدولة ضبطا جادا للأسعار أو حماية للبشر من الحط من كرامتهم بالفقر والفاقة, واجتراح مهانة السؤال. لذلك لابد أن ينشط المجتمع الأهلي, والأهالي عامة, في مكافحة الغلاء علي الأقل بحملات مقاطعة السلع والتجار الذين يرفعون الأسعار بلا مبرر. وإذا لم ينجح هذا فلندع إلي مليونية ضد الفقر والغلاء, وضد الحكم الذي يغمط الناس حقوقهم في العيش الكريم, ولا يقوم علي برنامج فعال للأمن الإنساني وقت الضوائق, وعلي مشروع جاد للنهضة يكفل القضاء علي البطالة والفقر في مصر. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى