الأزمة والعواصف التى تعيشها تونس حول مصير يوسف الشاهد وحكومته تحمل أبعادا عدة . ولكن أبرز هذه الأبعاد وأغربها هو الخلاف بين قيادة «نداء تونس» ممثلة فى مديره التنفيذى «حافظ» نجل الرئيس السبسى ومجموعته وبين الشاهد وحكومته. وهذا ما يؤكد التلاحق الدرامى للأحداث على مدى الأيام القليلة الماضية:من اعلان الرئاسة التونسية تعليق تطوير مسار قرطاج المؤسس لحكومة الشاهد وتعذر التوصل الى اتفاق على (وثيقة قرطاج 2) وخروج الشاهد فى كلمة موجهة للتونسيين باللغة العامية يهاجم فيها للمرة الأولى «حافظ» ويحمله مسئولية تدمير حزب النداء الذى ينتمى اليه رئيس الحكومة نفسه . والمتابع لمجريات الحياة السياسية وتطورات مؤسسات الدولة والحكم فى تونس على مدى السنوات الماضية يلاحظ ان هذا الحزب برز انطلاقا من نهاية عام 2012 . واستطاع سريعا أن يمثل بديلا ليبراليا حداثيا «للنهضة «ومشروعها المتهم من قطاعات واسعة بتهديد «مدنية الدولة» . خرج الحزب من الانتخابات التشريعية والرئاسية نهاية 2014 عملاقا بوصفه الحزب الأول فى البرلمان ب 86 مقعدا من اجمالى 217 واستطاع أن يدفع بالنهضة الى المرتبة الثانية ب 69 مقعدا وحقق ما وصف بأنه «توازن» فى ديمقراطية ناشئة .وأرسى على هذا النحو نظاما حزبيا يقوم على رأسين. لكن «النداء» الذى يدين بتأسيسه لقدرة الباجى قايد السبسى «التجميعية» ونجاحه فى أن يجمع حوله شخصيات ليبرالية ويسارية ونقابية ومن رجال بورقيبة و رجال بن على سرعان ما أصبحت قيادته بمنزلة «ماكينة طرد» لقياداته وكفاءاته وكوادره بعدما غادر مؤسسة «الباجى» الى موقع رئيس الجمهورية التزاما بنص الدستور على حيادية المنصب عن الأحزاب وتاركا موقعه الى نجله «حافظ» ولقد كان على الحزب ان يواجه لحظة الحقيقة الجديدة مع اعلان نتائج الانتخابات البلدية مايو الماضى ولم تفلح حملة توسيع العضوية نحو رجال الأعمال على مدى الأشهر القليلة الماضية. وتراجع الحزب الى مرتبة الحزب الثانى فى البلاد بعد «النهضة». وفقد ثلثى خزانه الانتخابى دفعة واحدة مقارنة بانتخابات 2014 .وهذا بعدما افقدته أفواج المغادرين وسلسلة الانشقاقات صفة الكتلة الأولى فى البرلمان منذ نحو عامين. وهى مغادرات وانشقاقات دارت حول سببين رئيسيين: الأول هو الانتقال المبكر والفورى بعد نجاحه الملحوظ فى الانتخابات التشريعية والرئاسية من موقع القطب الوازن فى مواجهة « النهضة» الى التوافق والتحالف معها.وهى سياسة تعود الى «السبسى الأب» نفسه وكذا الى اعتبارات دولية واقليمية. والثانى هو صعود «السبسى الابن» وسيطرته على مقاليد الحزب وتكوينه مجموعة قيادية حوله تنفرد بالقرار الحزبى مع ضعف الأطر المؤسسية فى اتخاذ القرار وغياب أى مؤتمر جامع محل مصداقية يعيد بناء الحزب. وعلى خلاف حالة حزب النهضة الذى تطور كثيرا فى اتجاه هذه المؤسسية و«نحو الوسط» انزلق «النداء» الى مزيد من هذه الأمراض والى مغادرة مربع الوسط باتجاه اليمين . وجاءت الانتخابات البلدية ونتائجها لتعمق أزمة النداء وقيادته خصوصا أن العين على الانتخابات الرئاسية والتشريعية بعد نحو عام و نصف العام ليس إلا. ولم يجد «حافظ السبسي» سوى تحويل السخط وتحميل مسئولية النتائج على أداء الحكومة ورئيسها. وهذا مع مفارقة أن الحزب وسع بضغط من نصيبه بالحكومة إلى أقصى حد ممكن فى التعديل الوزارى الأخير سبتمبر الماضى. وهكذا انضم «النداء» تحت قيادة حافظ إلى اتحاد الشغل كبرى المنظمات النقابية وأكثرها تأثيرا فى الشأن العام والسياسة فى المطالبة بعدم الاكتفاء بتغيير وزاري. بل وبرحيل الشاهد نفسه. وإذا كان للاتحاد أهدافه ومنطقه وخطابه فى تبرير تحوله منذ نحو الشهرين من الداعم الأقوى لاستمرار الشاهد إلى المطالب بتغييره ورحيله والملحّ على هذا. فإن من الصعب إقناع التونسى العادى بان «النداء» انضم إلى أهداف وخطاب الاتحاد. وباستثناء تحميل حكومة الشاهد ما يوصف ب «الفشل الاقتصادي» وعدم الرضا عن تحقيق تقدم كاف فى تجاوز الأزمة الاقتصادية، فلا أحد بإمكانه أن يقتنع بأى اتساق بين سياسية نداء تونس وقيادته التى اتخمت برجال الأعمال وبين خطاب الاتحاد المعارض لروشته «صندوق النقد الدولى» التى تدفع إلى مزيد من الغلاء والبطالة وخصخصة المرافق والمؤسسات العامة. بالطبع لا يمكن لأى تونسى عادى أن يقتنع بأن «حافظ» ورجاله انتقلوا من اليمين إلى اليسار هكذا فجأة. وحقيقة لم يصدر عن أى منهم ما يفيد بمسايرة خطاب الاتحاد ومغازلة أهدافه وشعاراته فى الدفاع عن حقوق العمال والقطاع العام و الطبقات الأقل حظا فى التنمية والثروة. مجاهرة حافظ السبسى وقيادة النداء بطلب رحيل الشاهد لم تكن مدهشة وحسب بسبب أن رئيس الحكومة هو من أبناء الحزب وان الحكومة فى معظمها من أبناء هذا الحزب أيضا. لكنها أربكت قصر قرطاج الرئاسى والرئيس السبسى على نحو خاص. وثمة حديث متعاظم فى وسائل الإعلام عن الحرج الذى يستشعره رئيس الجمهورية إزاء تحولات نجله وما وصل اليه الحزب الأول فى انتخابات 2014. و بهجوم الشاهد السافر والمباشر على حافظ السبسى واتهامه بتدمير الحزب ووضع الدولة و مؤسساتها فى خطر مما يعزز لدى البعض أن الرئيس السبسى قد ينتقل إلى مرحلة المجاهرة بالحرج وعدم الرضا على نجله ومجموعته، إلا أن ما يمنعه هو توخى عدم الخوض والانغراس فى الشئون الداخلية للأحزاب. ولقد كان لافتا أن الشاهد لم يخرج لمخاطبة المواطنين التونسيين بهجوم غير مسبوق على نجل الرئيس وقيادة النداء إلا بعد أن نشر من تبقى من قيادات الحزب ونوابه «غسيل خلافاتهم» فى وسائل الإعلام. كما بدا مؤكدا أن كتلة النداء البرلمانية بعدما تقلصت إلى 56 نائبا ،غير موحدة فى موقفها من بقاء أو رحيل الشاهد .ناهيك عن أن اللجوء إلى المسار الدستورى للإطاحة بالشاهد وهو التصويت على حكومته بعدم الثقة فى البرلمان اصبح مرجحا بقوة أن يرتد بأثر عكسى على نداء تونس وحافظ السبسي. ثلاث رسائل إضافية حملتها كلمة الشاهد للتونسيين مع انها خالفت ما توخاه من صراحة ولغة مباشرة حادة وفى مواجهة نجل الرئيس ورجاله. فالملاحظ أن رئيس الحكومة تجنب تقديم تعهد واضح بأنه لن يخوض الانتخابات الرئاسية 2019. وهو شرط يجتمع عليه النداء والنهضة مع خلافهما العلنى الأخير حول بقاء الشاهد أو رحيله. ويبدو أن الرجل بهذه الرسالة ابقى فى يده ورقة مناورة يحتاجها فى واقع سياسى شديد التقلب ويدفع بتونس على مسار التحول إلى الديمقراطية لتقترب من النموذج الإيطالى لا الفرنسى فى كثرة تغيير الحكومات وسيولة الحياة الحزبية والبرلمانية. والرسالة الثانية تتمثل فى تجنب الشاهد ذكر النهضة فى كلمته . ولعله بهذا أراد أن يرد بشكل غير مباشر على انطلاق تحليلات واتهامات بأن الرجل وحكومته أصبحا أسيرين للحزب الأول فى الانتخابات البلدية بعدما تقدمت النهضة لإنقاذه من رياح حافظ وحزبه ومعه اتحاد الشغل. أما الرسالة الثالثة فتتمثل أيضا فى تجنب الشاهد تصعيد المواجهة مع اتحاد الشغل وكأنه يقول معركتى الآن مع «حافظ النداء». وأيا ما ستكون عليه علاقة الشاهد بالنهضة مستقبلا على ضوء الانقسام بين قطبى التوافق حول مصيره على هذا النحو، فإن ماجرى خلال الأيام القليلة الماضية يعمق مرة أخرى من أزمة نداء تونس ويضعفه و يعزز فرص النهضة فى الانتخابات العامة المقبلة نهاية عام 2019 .كما يضع النداء فى وضع الأكثر احتياجا للمحافظة على «التوافق» مع النهضة بصرف النظر عن صخب خطابه الدعائى وحدته.وهذا هو ما يستمر عليه الحال، اللهم إلا إذا طرأت معجزة بتونس تنقذ حزب النداء أو تصنع بديلا سياسيا جديدا يعيد التوازن